×
محافظة الرياض

"الخيبري" يُرزق بمولودة جديدة

صورة الخبر

كأن صبحي موسى يريد أن يضرب بقدميه في اتجاهين، نافضاً عن الثقافة العربية عدم حفاوتها بمن يكتب نوعين أدبيين، فهو يكتب الرواية والشعر، وله في الجنسين منجز مهم وكبير، لكن يبدو أنه قرر أن يكون روائياً، لما تحقق له من صيت أدبي عبر روايتيه الأخيرتين: أساطير رجل الثلاثاء والموريسكي الأخير و فازت الأولى بجائزة معرض القاهرة للكتاب في إحدى دوراته. في روايتيه المشار إليهما لم يترك صبحي موسى للصدفة شيئاً، فهناك اشتغال وقراءة في مصادر لها علاقة بعمله الإبداعي، فهل كان يخطط أو يطمح لأن يكون كاتباً في يوم من الأيام؟، في تلك الزيارة الثقافية نتعرف إلى ما لا يعرفه كثيرون عن الروائي والشاعر صبحي موسى. يقول: لا أعتقد أنني كان من المفترض أن أكون كاتباً، لأنني ولدت في عائلة ريفية بسيطة، أعلم من فيها هو عمي محمود، الذي كان لديه مصحف يقرأ فيه أحياناً، لكن ذلك لا يعني أن قريتنا بشكل عام كانت غفلاً، فقد كانت واحدة من القرى ذات المستوى الثقافي الجيد، فمحبة الناس في التعليم جعلتهم يقومون ببناء مختلف مدارس المراحل التعليمية بالجهود الذاتية، وهو ما جعلها قبلة لأبناء القرى المجاورة، كما جعل أبناءها يترددون على كليات القاهرة، وكان من أبناء هذه القرية وزيران، الأول وهو عباس عمار الذي تولى وزارة المعارف في عهد الملك فاروق، وبعد الثورة تولى منصباً مهماً في الأمم المتحدة، وله كتاب مهم عن شبه جزيرة سيناء، أما الثاني فهو ناصف طاحون الذي شغل منصب وزير التموين في عصر السادات، وفي أيامه رفع السادات ثمن الخبز فخرجت المظاهرات لتملأ الشوارع اعتراضاً عليه، فأقاله السادات. قضى صبحي موسى تعليمه الابتدائي وهو لا يعرف شيئاً عن الكتابة أو القراءة غير كتاب المطالعة، لكن بانتقاله إلى المرحلة الإعدادية حدث التحول، فقد كان شقيقه ملتحقاً بالتعليم الثانوي، ووجده يقرأ أسطراً قال إنها شعر، وأمام افتخاره بها قال له إنه يستطيع أن يكتب أفضل منها، منتبهاً إلى أن سطوره كانت موزعة إلى جزأين، وأن كل السطور كانت تنتهي بنفس الحرف، فجمع أكثر من عشر كلمات تنتهي بالألف والهمزة، وأخذ يكتب سطوراً تنتهي بواحدة منها، ونظراً لخوفه من سخرية شقيقه قرر أن يعرضها على مدرس اللغة العربية ليعرف رأيه فيها. كان أستاذ اللغة العربية واسمه رضا سرحان قد تخرج حديثاً في كلية دار العلوم، وكان يمثل عامل الحداثة في القرية، ففضلاً عن كونه الوحيد الذي كان يصاحب المدرسات كان متحدثاً جيداً، وقد قيل إنه يكتب الشعر، وأن له ديواناً سينشره قريباً، انتظره صبحي موسى حتى دخل الفصل، وذهب إليه بقصيدته الأولى، كان يتصور أنه سيقول له: سأقرأها وأقول لك رأيي فيها، لكنه استدار ناحية الطلاب ليطلب منهم الإنصات، وكما يقول صبحي موسى: كان الوقوف بالنسبة لشخص خجول مثلي أمام أكثر من ثلاثين زميلاً وزميلة كارثة كبرى، لكنني أغمضت عيني وبدأت في القراءة، المدهش أنني بمجرد ما إن انتهيت منها حتى وجدته يصفق لي ويأمر زملائي بالتصفيق. ربما كانت تلك أول جائزة أتلقاها في حياتي - الكلام لموسى - قال إنها قصيدة جميلة ورائعة، وسأل زملائي هل هناك من يمكنه أن يكتب قصيدة مثلها، البعض رفع يديه، فقال نلتقي غداً في حوش المدرسة وننظر قصيدة من أفضل، وفوجئت بأن هناك من يهمه الفوز بالأمر، ولم أكن حتى هذه اللحظة أعرف ما هو الشعر، لكنني بدأت أتردد على بيت الأستاذ رضا لأستعير منه كتباً فأقرأها، أذكر أن أول ديوان قرأته كان ديوان لابد لمحمود حسن إسماعيل بإيقاعه العالي السريع، وكلماته السهلة. عرفت من الأستاذ رضا شعر علي محمود طه وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي وغيرهم، وأذكر أن أول كتاب نقدي قرأته كان كتاب وطنية شوقي تأثرت بقصائده البديعة عن النيل وأبي الهول والمعابد المصرية وتصويرها، وفتنت بما صاغه عن التراث الفرعوني، وغضبت من قصيدته صغار في الذهاب وفي الإياب التي قالها في استقبال أحمد عرابي وهو عائد من منفاه عجوزاً مريضاً على مقعد متحرك، لكنني لم أتوقف عن رؤية شوقي بوصفه أميراً للشعراء. بدخوله المرحلة الثانوية انتقل شقيقه إلى القاهرة حيث التحق بكلية الفنون الجميلة، وبدأ يرتاد ما يعرف بسور الأزبكية، وهنا بدأ صبحي موسى يعرف أعمال ودواوين لم تعد ذاكرته تحتفظ بأسماء كتابها، في هذه المرحلة انتقل من رضا سرحان إلى أساتذة آخرين، بعضهم وفر له كتباً وبعضهم وفر له شروحاً مهمة عن العروض وتفعيلاته، وصار الشعر بالنسبة إليه أقرب إلى فكرة الحرفة، لأنه كان لابد أن يكتب ليطبق ما يعرف، على كل حال هو لم يستطع أن يكون وزاناً، وظل ينظر إلى السكون والحركة والعلل بوصفها حسابات رياضية كريهة، ولم يكن يعلم أن هناك ما يسمى قصيدة النثر، لم يعرف بذلك إلا في المرحلة الجامعية. يقول صبحي موسى: في هذه المرحلة حدث نوع من الصراع على استقطابي، فقد كان الحداثيون يريدونني في صفهم، لكن خجلي الزائد وارتباكي الدائم حين أكون تحت الأنظار كانا يجعلانني أبحث عن الوحدة، وفي أكثر الأحوال أسعى لمصاحبة الضعفاء الذين لا يحتفي بهم أحد، وتحولت كتابتي في هذه الفترة إلى نوع من النقد الاجتماعي لما أراه، فاجتمع حولي البعض وانتقدني البعض وقاطعني البعض، لكن الحدث الأهم في هذه المرحلة هو تعرفي إلى الأستاذ مروان طاحون، وكان أميناً لمكتبة المدرسة، كل فسحة كنت ألتقي به هناك، حيث رأيت الشوقيات وسمعت بنزار قباني، وفاروق جويدة ومسرحيته (دماء على أستار الكعبة) سمعت بصلاح عبد الصبور (الناس في بلادي، ومسافر ليل) وانتقلت إلى بيت الأستاذ مروان فوجدت لديه مكتبة تفوق مكتبة المدرسة ثلاث أو أربع مرات، وعلمت منه أنه كان زميلاً لرجاء النقاش، كان يسخر من وضعه كابن عمدة قبل أن تنتهي العمودية من قريتنا، ومن كون رجاء كان زميلاً فقيراً يسخر منه الجميع لأنه كان دائماً يحمل الكتب، كان مروان يضحك ساخراً من القدر، فقد أصبح هو أمين مكتبة في مدرسة، بينما أصبح النقاش ناقداً وكاتباً شهيراً. في مكتبة الأستاذ مروان رأى مجلة فصول بقطعها الشهير في زمن عز الدين إسماعيل، قرأ بعض مقالات أعدادها عنده، رأى كتباً ظل يحلم بامتلاكها كالفتوحات المكية لابن عربي وموسوعة سليم حسن عن مصر الفرعونية، والحيوان للجاحظ وغيرها، هذه المكتبة لا يعلم مصيرها الآن، لكنها كانت تحتوى على أمهات الكتب، وكان الأستاذ مروان ينفق كل راتبه عليها، حتى أن بائعي الجرائد كانوا يجمعون له كل ما لديهم من كتب وجرائد ومجلات كي يشتريها، لكن مروان كان حكاء أكثر منه قارئاً، ففتح عينا صبحي موسى على الكثير من المعارف التي ظل يلهث خلف تحصيلها. في العام الأول بالجامعة رأى إعلاناً عن مسابقة شعرية لكتابة قصيدة عن غزو العراق، فكتب قصيدة وذهب لتقديمها إلى رعاية الشباب، سأله الموظف: هل تعرف هيثم الحاج علي؟ قال: لا فنظر نحوه بتعاطف قائلاً: دا شاعر الكلية.. لازم تشوفه ولم يلتق به إلا في العام الدراسي الثالث، لكن قصيدته فازت بالمركز الثاني، وكانت الجائزة شهادة استثمار بقيمة خمسة جنيهات. كان صبحي موسى أحد المدافعين عن القصيدة العمودية، وكانت هذه مرحلة الرومانسية المعذبة بالنسبة إليه، كان كل من يسمع قصيدة له يتساءل عن التي سببت له هذا الحزن؟ لكنه في العام التالي قرر أن يكتب قصيدة نثرية، وكانت المفاجأة أن كتاب النثر رحبوا بما كتبه، فحدث التحول وصار شاعراً من شعراء النثر، في هذا العام التقى بأصدقائه علي عبد الحميد بدر وطاهر البربري وعبد الحفيظ طايل وعبد الوهاب داوود وتعرف إلى د. محمد فكري الجزار وتردد على قصر ثقافة شبين الكوم، ودخل لأول مرة سينما، وخرج من منتصف الفيلم، كان واحداً من أفلام ممدوح عبد العليم وليلى علوي وكان يجلس في الصف الأول، فرأى الصور كبيرة تطل عليه من عالم يكاد يبتلعه، فكره السينما وخرج منها، بعدها تعلم ألا يجلس في الصفوف الأولى. في هذا العام ذهب إلى بيت عفيفي مطر في قريته، للسلام عليه، بعد خروجه من المعتقل، واشترى الأعمال الكاملة لأمل دنقل، والناس في بلادي لصلاح عبد الصبور، ومدينة بلا قلب لحجازي، ونزل القاهرة وزار سور الأزبكية وتعرف إلى مقهى زهرة البستان، واشترى نسخة من أول ديوان لفتحي عبد الله راعي المياه فبدأت صداقة بينهما، تعرف من خلالها إلى أعمال أمجد ناصر، وسليم بركات، وقرأ الأعمال الكاملة في مكتبة الكلية لأدونيس ومحمود درويش، وفي نفس المكتبة تعرف إلى أعمال كلود ليفي شتراوس، وقرأ مقدمة ابن خلدون، وتعرف بحكم دراسته لعلم الاجتماع إلى الماركسية والرأسمالية والكونفشيوسية والزرادشتية، وأغرم بفكرة مقارنة الأديان. يواصل صبحي موسى: لم أكن أعتقد أنني سأكون كاتباً روائياً في يوم ما، وظل ذلك الأمر مؤجلاً بداخلي حتى حدثت أزمة الروايات الثلاث (ثلاث روايات أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وصادرها فاروق حسني وزير الثقافة، وأقال عدداً من قيادات الهيئة، استباقاً لمزايدات أنصار التيار الإسلامي، بعد أزمة رواية وليمة لأعشاب البحر) وجاء التحدي من قبل أحد أبطال هذه الأزمة، فأكدت له أنني يمكنني أن أكتب رواية أفضل من روايته، وبدأت أفكر في كتابة عمل عن قريتي والمركز الذي نتبعه وهو مركز أشمون، رابطاً بين كلمة أشمون وحضارات الأشمونيين في الجنوب، فتولدت فكرة روايتي الأولى صمت الكهنة بعدها كتبت حمامة بيضاء والمؤلف وأساطير رجل الثلاثاء وأخيراً الموريسكي الأخير.