يمكن القول إن مشاهدة فيلم "الصبا" "Boyhood" تجربة شديدة الخصوصية, فنحن هنا لا نشاهد قصة عادية، أو حتى غير عادية تنقلنا إلى أجوائها الغريبة، لكننا هنا نشاهد الحياة مكثفة ومختزلة بتفاصيلها الصغيرة بشكل يهز الوجدان. نرى أطفالاً يكبرون أمامنا وتكبر معهم أسئلتهم وحيرتهم تجاه كل ما يحيط بهم, ونعرف جيداً أن هذا الطفل الذي شاهدناه في السادسة هو ذاته يكبر أماما أعيننا وكل أفراد عائلته هم أنفسهم ونشاهد الزمن يترك بصمته على كل منهم؛ الزمن الذي يمكن اعتباره الشخصية الرئيسية في الفيلم، وحضوره الطاغي وهو ما يجعلنا كمشاهدين مأخوذين بمتابعته وبالإحساس بوجوده طوال الوقت. ولذلك فمع مرور الزمن ومشاهدة تحولات الشخصيات، نشعر بأننا نشاهد مقتطفات من حياة عائلة، فها هي الحياة بذاتها قد تم الإمساك بروحها وها نحن نراها تقدم بشكل مختزل. ما قد يكون الأجمل من كل هذا، هو حس المغامرة عند المخرج ريتشارد لينكلاتر، الذي أعلن في أكتوبر عام 2002 أنه سيبدأ تصوير فيلم بشكل متقطع عن ولد صغير له أخت تكبره قليلاً وسيرصد حياته من عمر الست سنوات إلى سن دخوله الجامعة. وعهد إلى الممثل إيثان هوك بإكمال المشروع في حال وفاته. هذا النوع من الجنون الفني الجميل في النظر إلى مشروع فني كرغبة خالصة في البحث والتعبير مهما كانت المصاعب هو ما يميز أعمال ريتشارد لينكلاتر. وهو لم يكن مشروعه الغريب الأول فهو الذي صنع الثلاثية الجميلة "قبل الشروق-Before Sunrise" و"قبل الغروب-Before Sunset" و"قبل منتصف الليل-Before Midnight"؛ حيث رصد فيها حياة رجل وامرأة (ايثان هاوك وجولي ديلبي) في تعارفهما الأول في "قبل الشروق"، وهما في مقتبل الحياة، ثم عاد إليهما في "قبل الغروب" ليراهما يلتقيان من جديد وقد أخذ كل منهما شكلاً لحياته، ثم قدمهما في "قبل منتصف الليل" وهما زوجان لهما طفلان ويحاولان الحفاظ على حياتهما معاً رغم كل المشاكل المحيطة بهما. لكن ما يميز فيلم "الصبا" أنه عمل ممتد زمنياً في قصته وفي صناعته ولكنه مختزل في فيلم واحد مدته ساعتان و45 دقيقة. ولذلك ففي تعامل لينكلاتر مع الزمن من خلال القصة، هو أيضاً يختبر الزمن كمخرج، ويجعله عاملاً في صناعة الفيلم وليس فقط كثيمة من ثيماته كما فعل في ثلاثيته. لكن لينكلاتر في الثلاثية وهنا يعيد تساؤلاته حول الزمن وتحولاته: ماذا يصنع بنا؟ ففيلم "الصبا" كما الثلاثية هو تأملات في محطات الحياة وهناك أسئلة وجودية لا يكف عن طرحها، من خلال حوارات عميقة يتعمد فيها العفوية وذلك بإشراك ممثليه في كتابتها حتى تخرج منهم بصدق وبشكل عفوي. وإن كان قد اعتمد على الحوارات بشكل كامل في الثلاثية في طرح تساؤلاته، فهو هنا يبحث في رحلة الحياة ذاتها. رحلة صبي صغير من بداية دخول المدرسة إلى التخرج منها والانتقال إلى الجامعة. تبدو رحلة شائعة لكن بها من الخصوصية ما يجعل لها شكلاً خاصاً. في بداية الفيلم، نشاهد ميسون الصغير (إيلار كولترين) وهو يسترق السمع إلى أمه (باتريشا أركيت) وهي ترفض الخروج مع صديق لها لأنها لم تستطع العثور على جليسة لأطفالها. ثم نراه وهو مع أمه وأخته وهي تقرأ لهما قصة، تبدو أخته سامانثا (لوريلي لينكلاتر "ابنة المخرج") والتي تكبره في العمر قليلاً (ربما ثماني سنوات) متسلطة وتتعارك معه كثيراً. وجه كولترين المعبر وهو يراقب أمه تتحدث مع صديقها ثم وهو يتابع حديث أبيه ميسون الكبير (إيثان هاوك)، يشي بحبه لهما وحزنه على فراقهما وحيرته فيما يحدث حوله. نشاهد ميسون يكبر وينتقل من مكان إلى آخر، فيما يمر والداه بتحولات شخصية وعملية فالأم تكمل تعليمها وتصبح أستاذة في الجامعة وخلال هذه الفترة تتزوج وتنفصل أكثر من مرة، والأب يتحول أخيراً إلى موظف لديه عائلة ومسؤوليات، بعد أن كان واضحاً في بداية الفيلم أنه شخص غير مسؤول، ولكن الحيرة والحب والتساؤل حول جدوى ما يحدث تظل على وجه كولترين الذي كان لينكلاتر محظوظاً جداً باختياره. فالصبي يملك موهبة حقيقية وأداؤه المتسم بالعفوية والصدق لم يتغير مع مرور السنوات وظل محافظاً على طبيعته الهادئة وملامحه الشاردة. تمر المواقف التي تعبر بكل صبي في اكتشاف العالم من حوله، في الانتقال مع التكنولوجيا من شيء إلى آخر، ومع التغيرات التي تحدث في العالم من هاري بوتر إلى حرب العراق، ومعها الصبية المزعجون في المدارس، واكتشاف عالم النساء، ومحاولة بناء علاقة عاطفية يكتنفها الفشل، واكتشاف موهبة التصوير والارتباط بها. مع الوقت، تتغير العلاقة مع الأخت لتصبح السند والأكثر تفهماً، بعد أن كانت المزعجة الأكبر، ويحزن الأهل لمشاهدة الأطفال يستقلون ويكبرون، فهو أكثر ما يشعرهم بمرور الزمن وأنهم هم أيضاً قد تجاوزوا مرحلة من العمر ودخلوا في مرحلة أخرى. الجميل في الفيلم هو التركيز على التفاصيل الصغيرة التي تكون الحياة بشكلها العام وهي أكثر ما يشعرنا بأننا نشاهد مقتطفات من عائلة حقيقية عاشت هذه الظروف ويصبح تفاعلنا مع الشخصيات أكبر. وتماهياً مع ما يحدث في الحياة، ففي الفيلم يمر أشخاص ويغيبون ليحضر غيرهم في مراحل عمرية مختلفة ثم تغيب مرة أخرى. ينتهي الفيلم وميسون على أبواب مرحلة جديدة وقد انتهت مرحلة الصبا وبدأت مرحلة الرجولة. يمكن الجزم بأن قوائم أهم أفلام هذا العقد لن تخلو من فيلم "الصبا". فبهذا الفيلم، يؤسس لينكلاتر لسرد روائي واقعي من نوع خاص. حيث الواقع يتجاوز المكان والشخصيات ليعاد سرده من خلال تفاصيله الصغيرة ومن خلال الزمن كعامل يترك أثراً كبيراً على هذا الواقع ويغيره. قد نكون محظوظين بوجود مخرجين من أمثاله لا يتوقفون عند ما هو معروف، بل يتجاوزنه بحس تجريبي فني عال وشجاعة، للخروج بأشكال فنية مختلفة، تعيد رؤيتنا للسينما والفيلم والواقع أيضاً.