سأل سائل في شهر شعبان من هذا العام موقعا رسميا للفتوى يتبع دولة خليجية سؤالا يقول فيه: إذا كان الجهاد فرض عين وتكاسل المستطيعون عنه، وقُتّل المسلمون في أرض المعركة، فهل ينفر المسلم دون إذن والديه إذا كان لديهما من يرعاهما، ودون إذن ولي الأمر؟ وقد جاءت الفتوى سريعة ومختصرة جازمة بأن "الجهاد المتعين لا يجب فيه استئذان الوالد ولا غيره". وكأنها إشارة خضراء للسائل بالنفير. يقيني ولست من أهل الفتوى أن الإجابة عن سؤال كهذا تستلزم توضيحات من السائل عن العدو الذي قصده؟ فعند بعض الفقهاء يُحدد العدو بأنه الكفار: "إذا نزل الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ، تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ"، وفي هذا النص مسألتان، مفهوم الكفار في نظر الشرع، ومفهوم البلد. فهل العدو الذي عناه السائل هم كفار، ووفقا لأي مستند شرعي تم تصنيفهم كفارا. والمسألة الثانية أن الوجوب هو على أهل البلد الذي نزل به الكفار (المعتدون)، وفي هذا التحرز ثَنْيٌ للمتبرعين بالنفير العام دون معرفة حالة العدو ومدى قدرة أهل البلد المسلم على دفع العدوان. وفي فتوى أخرى للموقع ذاته يقول المفتي "فالوجوب العيني إنما يتعلق بأهل البلد التي نزل بها الكفار، وأما من عداهم فإن لم يكف أهل البلد، ولم يقدروا على الدفع عن أنفسهم وجب على من يليهم أن ينفر منهم للدفع عنهم من تحصل به الكفاية". ومدار التكليف هنا يتوقف على عنصرين أساسيين أشرنا إليهما سابقا هما العدو والبلد، ولايوجد جزم بأن كل جهاد دفع متعين قد توفر فيه هذان العنصران. وبتنزيل ذلك على الواقع فإن الجهاد الذي نفر إليه المئات من المسلمين لم يتحقق فيه الجزم بأنه دفع لعدو كافر، وبالتالي تسقط جدلية البلد وما إذا كان أهله قادرين على ردع العدو الكافر. وينبغي للمفتين أن يسألوا المستفتين: هل هناك عدو كافر هاجم بلدا من بلدان المسلمين؟ وإن كان كذلك فهل أهل البلد قادرون على الدفاع عنه؟ وهل الذي يريد أن ينفر من أجل جهاد متعين يقطن بلدا هو الأقرب إلى البلد المعتدى عليه من العدو الكافر؟ أم أن هناك من هو أولى منه مكانا بالنفير؟ الأستاذ الدكتور محمد بن علي بازمول عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى له تأملات جميلة في هذا الأمر يغفل عنها كثير من المفتين، والله أعلم بالنوايا. فعنده أن "جهاد الدفع الذي ذكر أنه لا يشترط فيه ما يشترط في الطلب هو الذي يكون من باب دفع الصائل، يعني يا قاتل أو مقتول إذا لم تدفعه سيتمكن من البلد. أما مجرد دخول الكفار بجيوشهم البلد مع إمكان الرجوع إلى ولي الأمر وإمكان استئذان الوالدين وأن القضية دفعهم ولكن ليس بصورة دفع الصائل المذكورة فيشترط فيها في الجملة شروط جهاد الطلب". ومرجع الدكتور بازمول في ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه -صلى الله عليه وسلم- في معظم غزواته كان في جهاد دفع وكان يطلب تحقيق الشروط التي تطلب في جهاد الطلب .. فقد رد صلى الله عليه وسلم في (غزوة) أحد ابن عمر، فاشترط السن مع أن أُحُد جهاد دفع الكفار قدموا لحربه في المدينة فخرج إليهم"، ويرى الدكتور بازمول أن هذا ليس موضع خلاف. فكيف يكون الآن موضع إجماع بخروج أبناء المسلمين لجهاد لم يثبت أنه دفع صائل، وإنما تنزل عليه شروط جهاد الطلب من استئذان الوالدين وولي الأمر. أعتقد أن هناك ضعفا بينا في مناقشة الفقهاء المعاصرين لهذا الموضوع، وهناك من يحاول التمويه هروباً من التقرير وفقا لما ثبت عن رسول الله، فيوحي للقارئ أو السائل بأن ما يجري في بعض بلدان المسلمين إنما هو جهاد دفع متعين. ولأن العدو غير محدد الهوية، ولم يخضع في تعريفه لمقاييس الشرع فإن المغرر بهم يعلنون الجهاد على بلدان مسلمة ويقتلون مسالمين من مدنيين، أو عسكريين يحفظون أمن بلاد المسلمين، فمن الذي صورهم لهؤلاء الجهلة على أنهم أعداء؟ ليس ممكنا أن نلجم هذا الفكر الخارجي دون أن تتحرك المجامع الفقهية الإسلامية وعلماء المسلمين في حملة تشمل المناهج والمحافل الثقافية والمنابر الإعلامية وخطب المساجد يوضح فيها مفهوم جهاد الدفع المتعين، وشروطه، والعدو الكافر، والبلد. ولاشك أن النص على البلد في المراجع الفقهية يؤكد أن الإسلام لايحرم الدولة بمفهوم اليوم عندما عينت حينذاك "بالبلد"، ولو كانت محرمة لاستبدلت الأمة بالبلد. الوطن ليس ذنباً نعيش بسببه صراعا بين حبه والانتماء للأمة، وجهاد الدفع المتعين ليس على اطلاقه وإنما هو مقيد بما ثبت من الدين بالضرورة بعيدا عن الاجتهادات، فليس هناك أصدق من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قيلا. ولذلك فإن المرحلة تستدعي حوارا ونقاشا صريحا بين المتخصصين، وأن يكون في هذا البلد الذي هو محل ثقة المسلمين وأن يؤخذ على أيدي السفهاء من المفتين الذين يجتزئون النصوص وبخاصة فريق تسويق داعش في وسائل التواصل الاجتماعي.