الحب شعور غامض لا يعرف أحد منا موطنه في خلايانا! وقيل في المثل الشعبي إن "الحب في القلب"، وحينما عمل علماء البايثولوجي وعلماء الأنسجة على تشريح القلب، أخبرونا أنه عضلة لضخ الدم بما يكفي حاجة الجسد! فيمتلئ باللذة والحب فيعمر العالم، أو يمتلئ بالكدر والشر فيدمر نفسه ويدمر عالمه ثم يدمر العالم! شيء عجيب وغريب وسر من الأسرار التي أودعها الله - سبحانه وتعالى - فينا! ينتقل الإنسان بين اللذة والكدر؛ وبين الحب والكراهية، وبين السعادة والشقاء، بفعل كيميائي مسؤولة عنه عضلة في الجسد تسمى القلب؛ فهل هو القلب الذي نعرفه الكامن بين ضلوع الصدر؟ أم أنه قلب آخر؟ يحويه جسدنا ولا نعلم مكانه، خاصة أن الله - سبحانه وتعالى - قال (ما جعل الله لِرجل من قلبين في جوفِه). وذلك لأن قريش كانت تعتقد أن للمرء قلبين في جوفه إذا ما نبغ وتفوق! لأن رجلا من قريش كان يدعى "جميل بن معمر الفهري" ويلقب بذي القلبين من شدة دهائه! وفيه يقول الشاعر: وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما/ قضى وطراً منها جميل بن معمر. ولذا تساءل الأجداد عن مكان القلب المحب والكاره، والمتلذذ والمكدر، والعبقري والساذج. كلها تساؤلات ظلت مدارا للبحث في العالم لسنوات. فقال علماء الدين: "إن القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلاً للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسمع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئاً وهو بين لمتين، لمة من الملك ولمة من الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الترمذي، وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة"! وبهذا فقد سبق علماؤنا كل أولئك المحللين النفسيين وعلماء الباثيولوجي وعلم التشريح في العالم بهذا الشأن!. ولكن علينا أن نبحث عن مكمن هذه المضغة، خاصة أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال في حديث شريف: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب". فأين تكمن هذه المضغة إذا؟ بعدما رجعنا إلى العلم وما طرحه العلماء عن مكامن هذا الجهاز الحساس في حياتنا، وجدناه متمثلا في "الوجدان"، وهو المسؤول عن كل هذه العواطف والأحاسيس. فيقول هربرتريد في كتابه التربية من أجل الفن وفي مضمار اللذة والكدر: "إن المشاعر الأولية يمكن اختزالها إلى اثنين: السرور والكدر، أو اللذة والألم، ولو أن الألم غالباً ما يحصر في نوع خاص من الإحساس البغيض". فالسعي إلى اللذة (السعادة والحب والخير والجمال) هو بمعني تحرير الشخصية، إذ تكون مشاعرنا بصورة طبيعية مكبوتة مضغوطة. إننا نتأمل بكل انطلاقات الفكر الحر، ونشعر بشيء من تنفيس المشاعر ولكننا نشعر أيضا بنوع من الإعلاء والعظمة والتسامي. وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الكدر والإحساس بالكدر، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان. والحب أيضاً تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط، مثير، فالحب هو علم اقتصاد الوجدان، إنه الوجدان متخذا شكلاً جميلا؛ وسمي باللذة الإستاطيقية. يقول الفيلسوف السابق في هذا المقام: "اللذة الإستاطيقية، هي اللذة التي تصحب تذوقنا وتتوفر أيضا في خبرات الحياة العادية، ذلك أن الخبرة إذ تمضي نحو الإشباع صحبها الشعور بالرضا، وقد يتضخم هذا الشعور أحياناً حتى يصل إلى حد النشوة والرضا وما بينهما درجات من اللذة الجمالية الإستاطيقية ثم إن الخبرة بمعناها الدقيق تعني أشد درجات الحيوية في الكائن الحي إنها تعني التفاعل التام بين الذات وعالم الأشياء والأحداث". ويقول فلاسفة آخرون: "إن الإنسان هو تحيزه لوجهة نظر معينة، فقد لا يتذوق الإنسان إلا ما هو معروف لديه، فتراه لا يعجب إلا بما هو شائع في بيئته فتكون أحكامه محدودة متحيزة". وقد يضلل الذوق أيضاً الجهل بأصول كل شيء لعدم كفاية الخبرة. كما أن أداة التسجيل وهي العين البشرية والجهاز العصبي الذي تتواصل معه العين تختلف كفاءتها من فرد إلى آخر ولا يوجد في الطبيعة شكل لا يرجع إلى عمل القوانين الميكانيكية تحت دافع النمو، وربما تغيرت سرعة النمو والمادة الأساسية والوظيفة أو الاستعمال، فقوانين الطبيعة لا تتغير بأية حال! وحينها تيقنت أن مصدر كل ذلك هو الوجدان وليس القلب، فذهبت في البحث وبكل موضوعية علمية - قد لا يتسع المقال لذكرها - حتى توصلت إلى أن الوجدان هو موطن كل ذلك، مكانه هو في الرأس، في فص صغير يرقد تحت الفصين الكبيرين، وهو المسؤول عن اللذة والكدر، وعن السعادة والكدر، وعن الحب والعاطفة بكل أنواعها. فتأكدت من مكان تلك المضغة، وتأكدت أيضا من أن الحب في القلب مثلما يقال، إلا أنه قلب المخ وليس قلب الصدر، فتأكد أنك تحمل قلبك على كتفك!