لقد أضحت الأمة عالة على غيرها من الأمم في أكثر متطلبات الحياة، وليس ذلك لتفاوت في العقول الموهوبة من خالقها، وإنما لقصور في استخدام هذا العقل من أبناء هذه الأمة الفقيه هو المتضلع في معرفة تفاصيل أحكام الشريعة الإسلامية فحسب، دون النظر إلى علمه بالعلوم الأخرى. ولاشك أن الفقه علم من أهم العلوم التي رغب فيها الشرع، بل وحث المسلمين على انتخاب بعضٍ من ذوي الفهم والكفاءة منهم ليتفقهوا في الدين. ولا اختلاف في أن الفقه في الدين فرض كفاية، فمتى قام به بعض المسلمين سقط الوجوب عن البقية. والفقه بمفهومه الشرعي التكاملي قد أصبح نادر الوجود، فالفقيه المجتهد اليوم عزيز جداً، مع أننا نرى كثيراً من المنتسبين إليه يعدون أنفسهم في مصاف الفقهاء، ويتكلمون عن الحلال والحرام مضاهاة لفقهاء الأمة، وهم في حقيقة الأمر مقلدة لفقهاء مضوا منذ قرون! ولست أريد الحديث عن هذه الرزية في هذا المقام، لكنها مقدمة أتكئ عليها للحديث عن متفقهة لا يرون العلم إلا معرفة أقوال الماضين، ومضغها وتكرراها! ثم يرون غيرهم جهالاً وعواماً، حتى ولو كان ذلك العامي - في نظرهم - قد ارتقى مراتب عالية في علومٍ بها استقامة مصالح المسلمين ومنافعهم. وإلى هذه النظرة أعزو جزءًا كبيراً من التراجع العلمي، إذ ان سببه هؤلاء الذين شرعوا في تزهيد الأمة في العلوم التي يسمونها دنيوية، وهي التي سبق بها الغرب والشرق وسادوا، حتى تحكموا في رقبة الأمة، وصاغوا حاضرها، ورسموا مستقبلها. وإن اختزال معنى العلم في النصوص الشرعية وفي الفقه خاصة تحجير لواسع، إذ ان حلقات التمكين ونشر الرسالة والجهاد والدعوة لا تتم بهذا الحصر والاختزال، يقول عز وجل (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهذا أمر مباشر بتعلم كل وسيلة من شأنها الرقي بهذا الإعداد، في الاقتصاد والسياسة والعسكرية والتقنية. نعم، لقد أضحت الأمة عالة على غيرها من الأمم في أكثر متطلبات الحياة، وليس ذلك لتفاوت في العقول الموهوبة من خالقها، وإنما لقصور في استخدام هذا العقل من أبناء هذه الأمة ! ومن أهم أسباب هذا القصور التزهيد في هذه العلوم الدنيوية، وحصر ثواب طلب العلم وسلوك طرقه في العلم الشرعي، بل في الفقه خاصة. وتأمل قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة..." فإنه لم يقل "يلتمس فيه فقها " بل قال (علمًا) وذلك شامل لكل علم نافع، وهذا الذي ينبغي لشباب الأمة أن يسلكه اقتداء بعلماء المسلمين الذين ذاع صيتهم وعم نفعهم وأسسوا للبشرية علوماً تتوارثها الأجيال وتُدرّس في جامعاتِ العجم والعرب، ومن المؤسف أن كثيراً من منسوبي الفقه الانتقائي يحذر من عمالقة هذه العلوم، دون تفصيل ولا محاولة الاستفادة من المفيد بل أصبحت القراءة في بعض كتب هؤلاء ونحوهم تهمة، وناقضًا من نواقض السلفية العصرية، وما أقرب هؤلاء من قول القائل: وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداءُ إذن أي مستقبل ننتظره، وأي جيلٍ ستعتمد الأمة عليه إذا كان موجهوه ومرشدوه يقفون حجر عثرة في طريق طلبِهِ للعلم النافع، بفهم مغلوط وخلط بين الفقه والعلم؟ كيف سنمخر عباب التقنية الحديثة، ونتجاوز أمواج شبهها العاتية، وشهواتها المغرية، وأفكارها المضللة دون دليل من آيات نثرت هدايتها في كتاب الله تعالى، في الفلَك والجيولوجيا والطب وغيرها؟ إنها دعوة للمراجعة نخص بها أولئك الذين مازالوا يعيشون في القرون الأولى بعقولهم وأرواحهم متجاهلين الواقع الرقمي الذي يتطلب من الشباب بذل كل المجهود ليلحقوا بالأمم التي سبقت في المجال العلمي، ونحن نبشرهم ونرغبهم بقول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم (من سلك طريقًا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقًا إلى الجنة).