ـ في الحديقة يحمل رواية متوسطة الحجم، ويتوكأ على عصا، ويبحث عن ظل يجلس فيه.. بعد أن يمد البساط يجلس بجواره، ويخرج مجموعة من الورق المسطر ويبدأ الكتابة؛ بينما تعبث يده الأخرى في صحن عدس جاء به خصيصاً كي يسد الرمق.. رحماك يارب. ـ بعد خمس دقائق يقوم من مكانه ويحمل الرواية ويتوكأ على العصا، ويقرأ غيباً بصوت مرتفع: (من حقنا أن نعيش، وألاَّ نستسلم).. ينساب صوته بلغة سليمة وبصوت جهوري جميل ورائع، وبين الكلمات ما لا يقال. ـ يعود مرة أخرى إلى ممارسة الطقس المعتاد بنفس الرتابة، والهدوء، ولا يكل ولا يمل من التكرار.. من التاسعة صباحاً وحتى العاشرة مساء؛ حالة إنسانية صاخبة تكاد أن تختصر تاريخاً عظيماً من جبروت التكميم!! ـ البعض يؤكدون أن هذا الرجل كان مثقفاً كبيراً ولكنه أصيب بلذعة جنون عامة، وآخرون يقولون إن مثل هذه الحالات لا تستحق اهتمام أحد؛ بينما الواقع أن هناك رجلاً غير عادي يقول كلاماً تطرب له الأذن، ونراه يومياً دون أن يجرؤ أحدنا على سؤاله مَنْ أنت؟ وكلنا ذلك الإنسان المعرض للذعة، وقد يحتاج إلى من يسأله من أنت كي ينهمر حلولاً، وربما انبساطاً.. ـ مروا على الحدائق والبيوت المهجورة وسترون رجالاً من هذا النوع؛ فيهم المثقف وفيهم البائس وفيهم من ضاقت به السبل، وكل يعبِّر عن نفسه بطريقته التي ألفها خلال حياته الطبيعية قبل (اللذعة).. إنهم عالم يقف على أصابع الدهشة، ويتطلع للبوح أو العلاج، ولا فرق بينهما والله. ـ لكن المؤكد أن المثقف حينما يصاب بلذعة جنون حادة فهو ليس مثل غيره من الملذوعين العاديين؛ هنا تنبثق مشاهد غير مألوفة تماماً، ويقال ما لا يمكن قوله في حالات العقل والتوجس من كل شيء.. هنا نهايات مفتوحة وعقول تحكي مئات الروايات الصادقة، ولا يهم أن يكون ذلك تحت ظل شجرة، أو في حديقة منسية!!