من يتابع أخبار العالم هذه الأيام عبر مختلف وسائل الإعلام: المسموعة، والمقروءة، والمشاهدة، يكاد رأسه يدور من هول ما يسمع ويرى، ومخالفته لكل عقل ومنطق ودين، لاسيما ما ابتلى الله به العالمين العربي والإسلامي، بما يُعرف بـ(الربيع العربي) الذي هو عندي (خريف شاحب) تساقطت فيه كل أوراق الخير والاستقرار والأمن، على شحّها، قبل أن يطل هذا البلاء الرهيب بوجهه القبيح. ففي ليبيا، حيث تزكم رائحة البارود كل مَن يحاول ملء رئتيه بهواء نقي، لا تعرف مَن يقاتل مَن؟ وفي اليمن، زعيم يحذّر، وآخر يهدد، وثالث يتوعّد، ومسيرات هادرة، وحشود مضادة. وفي أرض الكنانة جماعات مسلحة، وأحزاب متفرقة تحاول دائمًا أن تعيث في الأرض فسادًا، في عناد شديد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وفي السودان، أحزاب شتّى وخلافات متأصّلة وفساد إداري رهيب، لم تشهده البلاد عبر تاريخها، دمّر الاقتصاد، وفرَّق الناس، وكرَّس البؤس والشقاء، وضاعف معاناة البسطاء، واختفى معه كل ما يعرف من بنية تحتية، فأصبحت العاصمة (الخرطوم) تغرق في شبر ماء، ويفقد أهلها آلاف المنازل، فضلًا عن عشرات الأرواح، بسبب الأمطار كل عام. وفي لبنان، عجزت كل الحيل في الوصول إلى صيغة لحكم توافقي يرضي جميع الأطراف، وأصبحت الخلافات علامة مميّزة بين رئيس الدولة الذي لم يستطع اللبنانيون الاتفاق على تسميته منذ عام تقريبًا، وبين رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب. وفي الباكستان، أصبح شغل الناس إسقاط الحكومة لتشكيل أخرى بديلة، ثم إسقاطها وهكذا، في حين أضحت التفجيرات في الشوارع والمؤسسات ودور العبادة، عادة شبه يومية. أمّا في الصومال، فقد أصبح البحث عن معنى الدولة، أصعب من البحث عن إبرة صغيرة في كومة قش كبيرة. وفي فلسطين الجريحة، صبّ اليهود الحمم على مدى خمسين يومًا، فدكُّوا البيوت والأبراج السكنية على رؤوس ساكنيها، ولم تفرق آلة الحرب العمياء بين امرأة أو طفل أو شيخ هرم، أو مقاتل، بل لم تسلم منها حتى دور العبادة من مساجد وكنائس، فضلًا عن البُنى التحتية. وطالت يد العدو (الطويلة) بمساعدة العملاء، قيادات بارزة في المقاومة الفلسطينية، وأحسب أن فلسطين لن تعود لأهلها، ولن تأذن معاناتهم مع الاحتلال بنهاية، مادام بعض أبنائها من ضعاف النفوس، يتعاونون مع المحتل، فيرشدونه حتى إلى النملة في جحرها، وقد أقر أفراد ينتمون إلى جهاز مخابرات اليهود (الشاباك) في برنامج بثته قناة الجزيرة يوم الخميس 4/10/1435هـ، أنه لا أمن لدولتهم دون عملاء حقيقيين ثقات. وهنا تكمن مأساة فلسطين، ومعضلة جرحها النازف منذ يوم ضياعها قبل ستة وستين عامًا عجافًا. أمّا في بلاد الشام والعراق، اللتين تعيشان فوضى عارمة منذ سنين، فقد توقفت عجلة الحياة تمامًا، ولم يعد ثمة مكان لغير القتل والانتقام على الهوية، والانتماءات الطائفية، والمسميات الحزبية، وبلغ السيل الزبى بعد أن قويت شوكة ما يُعرف بـ(جند الدولة الإسلامية في الشام والعراق) الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة على الدمار والخراب، لإقامة دولة الخلافة الإسلامية المزعومة. ولا أدري أي خلافة تلك التي تقتل الرجال، وتسبي النساء، وتطعم الأطفال الرصاص والنار، وتفجر الدور والمؤسسات الحكومية على رؤوس كل من فيها بكل قوة وغلظة قلب. ليس هذا فحسب، بل بلغ بهم الأمر حدًّا لجمع الشباب وقتلهم، وتعليق جثتهم وسلخها، تمامًا كما تُسلخ الشاة، بعد فصل الرؤوس عنها وتجمعيها، والطواف بها في الشوارع والطرقات، لزرع الرعب والخوف في قلوب كل مَن يقف في طريقهم. فضلًا عن هذا الشره والروح الشريرة لتدمير كل البنى التحتية، وتهديد قوات حفظ السلام والدولة، واحتجاز جنودها، في جرأة لم يعرفها عالم الإجرام من قبل. أجل.. لا أدري أي إسلام هذا، وأي عقيدة تلك التي تسوق الناس كالخراف، وتحشرهم فوق بعضهم البعض، ثم توجه لهم فوهة البندقية وتطلب إليهم اعتناق الإسلام، والنطق بشهادة التوحيد خلف (الخليفة الداعشي) المزعوم، والله سبحانه وتعالى، خالق الخلق، ترك لخلقه حرية المعتقد، إذ يقول تعالى في محكم التنزيل: (وَقُل الحَقَّ مَنْ رَبكُم فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا اعْتَدنَا لِلظَّالِمِيْنَ نَارًا أحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإنْ يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابَ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف: 29). ويقول سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيّه صلى الله عليه وسلم: (إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَن يَّشَاءُ وَهُوَ أعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56). أجل.. لا أدري إن نسي أولئك الدواعش أو تناسوا، وأغلب ظني أنهم يجهلون أنه ليس ثمة شيء خير عند الله من ألف مثله غير الإنسان. ومن أحيا نفسًا، فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعًا. ومن سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجره شيء، ومن سنَّ سنَّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من وزره شيء. وأن في كل ذات كبد رطبة أجرًا.. ناهيك عن الإنسان الذي خلقه الله وكرَّمه بالعقل بين سائر خلقه.. إلى غير هذا ممّا ورد في كتاب الله العزيز الحميد، وما جاء في سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، من حض على التراحم والمحبة والتعاطف والتآلف والتآزر، وكل ما يحقق الخير والسعادة للإنسانية، ويرفق بالحيوان والنبات والبيئة. أقول: لا أعرف حقًا من أين أتى هؤلاء (الدواعش) بهذا الفكر المتطرّف الضال، الذي يتلذذ بذلِّ الرجال، وجزِّ رؤوسهم، وسبي النساء، وحرمان الأطفال، واستحلال دماء الآمنين وأموالهم وأعراضهم، وإكراههم على أن يكونوا مسلمين. والحق سبحانه وتعالى، الذي يزعمون أنهم يجاهدون في سبيله من أجل عبادته وطاعته، يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهمْ جَمِيعًا أفَأنْتَ تَكْرُهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُوْنُوا مُؤْمِنِيْنَ) (يونس: 99). فلا دين ولا أخلاق ولا مروءة، تقرّ أي شيء من ممارسات هؤلاء، التي أساءت للإسلام والمسلمين، ورسَّخت هوس الغرب وشكّه في الإسلام، وعزَّزت كراهيته للمسلمين، وأكدت له ضرورة التعاون والتنسيق لإيقاف هذا الجحيم قبل أن تمتد ألسنة لهبه لمصالحهم في العالم، وتبلغ حتى دارهم أينما كانوا، فتقلق راحتهم، وتقض مضاجعهم، وتهدد أمنهم وسلامهم. وأخيرًا، بعد إعراض الغرب لسنين عددا عن دعوة القيادة السعودية وتحذيرها منذ أول يوم كشَّر فيه الإرهاب عن أنيابه قبل عقدين تقريبًا، ثم تجديد الدعوة يوم فاجأ الإرهاب أعظم دولة في عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر عام 2011م، أقول أخيرًا آمن الغرب بقيادة الولايات الأمريكية المتحدة بنفاذ رؤية القيادة السعودية، وبُعد نظرها، وصدق توجهها، وسلامة نيتها، وثبات مبادئها، وحسن تقديرها للأمور، وصحة قراءتها للأحداث والتوجهات السياسية، بعد أن أسفر الإرهاب عن وجهه القبيح، وصال وجال في المنطقة، مهددًا الأمن والاستقرار العالميين، لاسيما مصالح الغرب. وأنا أكتب مقالي هذا، تتناقل وسائل الإعلام تأكيد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ضرورة تكوين تحالف إستراتيجي يعمل على كل المستويات، إنسانية، عسكرية، مخابراتية ودبلوماسية، لكسر شوكة ما يعرف بـ(تنظيم الدولة الإسلامية)، بعد أن بلغت تكلفة خزينة بلاده سبعة ملايين ونصف المليون دولار يوميًّا بسبب تدخلها لمقاتلة الدواعش في العراق، مؤكدًا العمل مع كل شركاء أمريكا لتحقيق هذه الغاية، مهددًا في الوقت نفسه أن بلاده سوف تتحرك بمفردها إذا دعت الضرورة ضد المتشددين، الذين استولوا على ثلث الأراضي العراقية والسورية، معلنين حربًا مفتوحة ضد الغرب، وعازمين على إقامة مركز للجهاد -على حد زعمهم- في قلب العالم العربي لتصدير شرهم للجميع. ولم تتأخر فرنسا طويلًا لتعلق على لسان وزير خارجيتها، عزمها على تشكيل تحالف دولي لمحاربة الدواعش. وتقر بريطانيا برؤية قائدنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه- وتؤمن بصدق قراءته للأحداث، عندما وجه الكلمة الضافية الجامعة كعادته دائمًا، للأمتين العربية والإسلامية وللمجتمع الدولي كافة، يوم الجمعة 5/10/1435هـ، من مهبط الوحي، ومهد الرسالة المحمدية، محذرًا من خطر الإرهاب الذي سيطال الجميع حتمًا، إن لم يتفق العالم على اجتثاثه. وقد حظيت تلك الكلمة بتغطية محلية وإقليمية وعالمية واسعة. أقول، أقرت بريطانيا أخيرًا، فرفعت درجة التأهب إلى الرابعة، تحسبًا لتسلل الدواعش إليها بليلٍ، ثم يكون ما يكون من فوضى وخراب ودمار، وكل ما هو معروف عندما يحل الدواعش ببلد ما. ومع أن استجابة الغرب جاءت متأخرة سنين عددًا لدعوة القيادة السعودية وتحذيرها من خطورة الإرهاب، كما أسلفت، ممّا حدا بها للاعتماد على سواعد أبنائها بعد الاتكال على خالقها للوقوف بقوة ضد الإرهاب ومحاربته بكل أشكاله، حتى استطاعت بعد معركة لا هوادة فيها، حماية مقدساتها، واستقلال ترابها، وأمن شعبها، بتوفيق الله سبحانه وتعالى، ثم بقوة عزيمة قيادتها الرشيدة وإخلاص سواعد أبنائها الأوفياء، مجسّدة بذلك تجربة فريدة، أدهشت العالم بقضه وقضيضه، فتداعى للوقوف على تجربتها والاستفادة منها.. أقول مع أن استجابة الغرب جاءت متأخرة، بعد أن وقع الفأس في الرأس، إلاّ أن الدولة السعودية الفتية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود -حفظهم الله ورعاهم- تعاملت بمبادئها ومثلها المستقاة من عقيدتها الصادقة الصافية النقية، التي لا تتعامل بالفعل وردّ الفعل، ولا تعرف الحقد والانتقام والشماتة، فمدّ مليكنا يده بالخير الذي لا تعرف غيره، وتبرع للأمم المتحدة بمائة ألف دولار، لتأسيس المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي آمنت بضرورته أخيرًا، وأعلن عن تعاون بلاده مع كل جهد صادق مخلص لمحاربة الإرهاب، وحماية الإنسان أينما كان، وضمان أمنه واستقراره، وحفظ كرامته وصيانة عرضه وممتلكاته، وحقه في حرية معتقده. فدولتنا ثابتة راسخة إلى الأبد -بإذن الله- لأنها تستمد دستورها من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل أبدًا، ومن سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى.. مؤكدين للغرب أن يصل متأخرًا خير من ألاّ يأتي أبدًا، لكن في الوقت ذاته، عليه هذه المرة أن يكون جادًّا في عمله، صادقًا في توجهه، يريد فعلًا مساعدة الناس وإنقاذهم وإنصافهم ممّا حلّ بهم من ظلم، بعيدًا عن كل أجندة سياسية تقوي هذا ضد ذاك، وتضعف ذاك لينال منه هذا، فمثل هذه السياسة ترسّخ الأحقاد، وتقوّي شوكة الإرهاب، وتنتهي بالدول إلى دويلات وإمارات وخلافات مزعومة، تكون أشد شراسة وإرهابًا لزعزعة العالم وتهديد الأمن والسلام، ليس في المنطقة فحسب، بل سيطال شرها الجميع، كما ثبت صدق حدس قائدنا الهمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه-. ومثلما علَّقت القيادة السعودية الجرس في الوقت المناسب، بكل شجاعة ومسؤولية، تؤكد اليوم أن يدها ممدودة لكل المخلصين والشرفاء والأوفياء في العالم، الذين يتعاونون بصدق وشفافية لدك حصون الإرهاب، وتفريق شمله إلى الأبد، وتحقيق خير البشرية. وعليه أتمنى من كل قلبي، أن ينقل أولئك السفراء الذين استقبلهم والدنا وقائدنا وحادي ركبنا، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه- بقصره العامر بجدة، مساء الجمعة 3/11/1435هـ، لدى تسلمه أوراق اعتمادهم، أن ينقلوا رسالته إلى زعماء بلدانهم فيما يتعلق بضرورة التعاون الجاد الحاسم لمواجهة الإرهاب واجتثاث شأفته في أسرع وقت ممكن، قبل أن يتمدد ويتعاظم شره، فيصعب القضاء عليه إن لم يكن يستحيل.. وساعتها لن تنفع يا ليت. أمّا نحن هنا، فسوف نمضي بالصدق ذاته والعزيمة نفسها لحماية مقدساتنا، واستقلال ترابنا، وصيانة أعراضنا، وحفظ أمننا واستقرارنا، والمحافظة على هذا الوطن الشامخ، الذي أسسه الملك عبدالعزيز وبناه بعرق الرجال المخلصين الأوفياء، وقد دفع كثيرون حياتهم ثمنًا لكي يظل شامخًا سامقًا نبع خير ومصدر سكينة وواحة أمن.. تحفّنا عناية الله سبحانه، وتبعث الشجاعة فينا مسؤولية قادتنا وصدقهم ووفائهم، وتثبت أقدامنا في الميدان، هذه اللُّحمة الوطنية الفريدة، التي أعيت كل حيل الإرهابيين لخلخلتها أو النيل منها، فالجميع اليوم هنا على قلب رجل واحد، خلف قائد استثنائي، ليس في قاموسه معنى للانهزام والتقهقر والتردد والتخاذل، بل الإصرار على استمرار مسيرة الخير القاصدة بكل قوة واقتدار.. إلى الأمام دومًا -بإذن الله الواحد المتعال-.