×
محافظة المنطقة الشرقية

تدريب معلمي الرياض على تقنية المجسمات ثلاثية الأبعاد

صورة الخبر

في أمسية أدبية أقيمت في نادي جدة الأدبي لأحد شعراء الجنوب الذين لهم مكانة خاصة بقلبي، والذي لن أذكر اسمه هنا كرسالة عتاب لعلها تصله. قال ضيف تلك الأمسية: "أبها لم تكتب بعد، الرواية الوحيدة التي تطرقت لأبها هي رواية "الباب الطارف" للروائية عبير العلي، وأتمنى لو أنني أمتلك اللغة السردية لأكتب أبها، وأخبر العالم عن اللون الذي يرتسم في سمائها، إثر تمازج لوني الضباب مع البخور المتصاعد من نوافذ المنازل عند الصباح الباكر". خرجت من تلك الأمسية وأنا أفكر بجدية لحد الجنون بتبني مشروع يهتم بكتابة المدن روائياً، يحفظ تاريخها، ويبين لنا تفاصيلها المتنوعة، وقبل أن أصل إلى المنزل خططت لأن يبدأ المشروع من الأندية الأدبية في كل مدينة بدعم من رجال الأعمال، عبر رصد مبلغ مالي ضخم كجائزة كبرى تفوز بها كل موسم الرواية الأكثر سرداً للمدن ولتاريخها وثقافتها وطرازها المعماري ولهجتها، ليستفيد منها المؤرخون والمهتمون والمتذوقون لأدب الرواية، وعندما استيقظت صباحاً أقنعت نفسي بأن الركيزة الأساسية التي اعتمدت عليها لتحويل هذه الفكرة إلى واقع لا تكفي لإنجاحها، أن تكون هناك جائزة في كل ناد أدبي بمبلغ مالي كبير لأكثر الروايات قرباً من مدننا فإنه لا يكفي لأن ينجح هذا المشروع. أؤمن بأن المواضيع التي يختارها الروائيون، إن لم تكن من الأعماق ومن وحي شياطينهم، فإنها لن تصل إلينا ولن تقنعنا، ولذلك لا يمكننا أن ندفع كاتباً روائياً لأن يكتب عن مدينة أو قرية لأننا فقط حفزناه مادياً، ومن هنا أعتقد أن هذه الفكرة قد ماتت قبل أن تولد، وأتمنى ألا يأتي أحد المهتمين بمجال التحفيز الذاتي ليقول حاول مرة أخرى، ويذهب ليخبرني بقصة أديسون وكيف أنه حاول كثيرا ليضيء لنا العالم. يقول ماريو بارجاس يوسا "من أجل تزويد رواية بالقدرة على الإقناع، لا بد من سرد قصتها بطريقة تستفيد إلى أقصى الحدود، من المعايشات المضمرة في الحكاية وشخصياتها، وتتمكن من أن تنقل إلى القارئ، وهما باستقلاليتها عن العالم الواقعي الذي يوجد فيه من يقرؤها" ويضيف: "وأنها تتضمن في ذاتها كل ما تحتاج إليه لتحيا، فإنها تكون قد وصلت إلى أقصى قدرة من الإقناع. وعندئذ، تتمكن من إغواء قارئيها"، ومن هنا أعتقد بأنه من أهم الأشياء التي تحتاجها الرواية في ذاتها لتحيا هو التفاصيل التي تجعلنا نستسلم لإغوائها مثلما فعلتها رواية "الباب الطارف"، التي أخبرتني عن أبها ما لم تخبرني عنه عشرات الزيارات الشخصية لتلك المدينة، فأنا قبل أن أقرؤها لم أتمتع يوماً بجمال بيوتها التراثية القديمة من الداخل، ان أقصى ما أعرفه عنها هو طرازها الخارجي، ولكن بعد "الباب الطارف" شعرت بأني أتسلل خفية إلى أحد البيوت العتيقة في أبها وأنا أقرأ: "أنزل الدرج الملتف باتجاه الأسفل والمزين بالقط الذي أحبته جدتي دائما في منزلها. أعبر الممر الصغير باتجاه الفناء الخلفي، تستقبلني نفحة هواء باردة، تتمايل معها أغصان شجرة الليمون المثمرة. أتجه نحو الباب الطارف المقابل لمنزلك، وأواريه بهدوء، وأجلس على حافة الحوض الذي يضم أغصان الريحان الذابل في غياب جدتي". وكذلك في رواية "أطفال السبيل" للروائي طاهر الزهراني فمن يقرؤها يشعر وكأنه سكن لسنوات عديدة في حي السبيل بجدة، يأخذك نحو أزقته وممراته وتركيبة سكانه واللهجة الجداوية ويحملك على دراجة هوائية مع الطفلة اليمنية "قمر" إلى حي الإسكان ومنظر الغروب في عين الغراب، ويغويك لدرجة الإقناع بأنك قد سكنت حي "السبيل". الروايات السعودية لم تتمكن حتى الآن من كتابة مدننا، وهذا لا يعتبر قصورا ولكنه مشوار طويل متغير ولكل مرحلة تفاصيلها التي تجعلنا مهما حاولنا أن نكتبها فإننا لن نكتب كل شيء عنها، ولكن على الأقل يجب على الروائيين أن يجعلوها أحد أهم أهدافهم في رواياتهم القادمة، نرغب أن نعرف تفاصيل مدنهم، صباحاتها، ولهجتها، وهمومها، وتصميم مداخلها وأبوابها، نريدهم أن يستضيفونا في قراهم ومدنهم ويخبرونا عنها بما يكفي لأن نعرف كل شيء. صحيح أن الزيارة الشخصية للمدن كفيلة بأن نتذوق أهم معالمها وتراثها ولكن أن نطلع عليها من خلال اللغة السردية الروائية فإنه يكفي لأن نعرف عنها ما لا يعرفه إلا من عايشها وتنفسها وشاركها فرحها وأحزانها وهمومها وتحدياتها. نريد من عبده خال أن يغوينا بسرده المقنع لنعشق "صامطة" مسقط رأسه التي بوسعه أن يخلدها في التاريخ في رواية تحمل لغته السردية الشديدة الإقناع، نريد من محمد حسن علوان أن يترك صوفيا بيروت، وتفاصيل الغربة ليأسرنا أكثر بلغته الشعرية عن عاصمتنا الرياض التي لم يكتبها بعد كما يليق بها. مدننا وقرانا التي هجرناها للبحث عن الرزق أو لطلب العلم أو سنهجرها قسراً ولو بعد حين، هي من تستحق الكتابة لأننا حرمنا منها أو سنحرم منها لا محالة، وسنتركها يوما ما، فلنكتب لها رسالة وداع نسرد فيها آلامها وآهاتها وضحكاتها وفرحها وكرمها وكرهها وأحلك لياليها سواداً ونخبرها ماذا تعني لنا، وكيف كنا نراها من الخارج، ومن تحت أشجارها، ومكوثنا الطويل على مقاعدها نشاركها الانتظار لأشخاص لن يعودوا، وكيف تبدو لنا من أعاليها ونخبرها كم مرة وارينا الحنين في زحام المدن البعيدة، وفي قولي هذا أنسجم جدا مع مقولة الإثيوبي دينو منجستو: "تذكر أن العالم لا يحتاج إلى كتابك. العالم سوف يستمر على نحو جيد من دونه. هناك الكثير من الروايات والقصائد والقصص والمقالات الرائعة، تكفي لحيوات كثيرة من القراءات المدهشة. لذا، اكتب من حاجة، من حرمان شخصي، أكتب لأنك -وربما أنت فقط- تحتاج قراءة تلك الكلمات".