تتأرجح قراءة القوى السياسية اللبنانية للتطورات في المنطقة انطلاقاً من العراق، ودخول القوى الدولية والإقليمية حقبة «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، وانعكاسات هذه التطورات على لبنان، بين التمنيات بأن تؤدي إلى نتائج إيجابية تفضي إلى إنهاء الشغور الرئاسي، وبين الاستنتاج بأن من المبكر ترجمة تقاطع مصالح الدول المتخاصمة إلى تفاهمات تشمل معالجة مرحلية لأزمة لبنان السياسية، نظراً إلى أن أمام هذه التفاهمات جدول أعمال مثقلاً إقليمياً قد يكون لبنان في آخر أولوياته، من دون إغفال أن هذه التفاهمات تساعد على سياسة حفظ الاستقرار فيه التي تجمع عليها القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالحد من خسائر تداعيات الأزمة السورية عليه. أما التمنيات بأن تضغط تطورات المنطقة وصعود «داعش» من أجل إنهاء الشغور الرئاسي، فتنقسم إلى نوعين كالآتي: 1 - راجت خلال الأسابيع الماضية تكهنات كثيرة بأن الفاتيكان، من باب قلقه على أوضاع المسيحيين في المنطقة جراء ما حصل في العراق، قد يطلق تحركاً جدياً يدفع لانتخاب رئيس جديد ويضغط على القوى المسيحية، لا سيما زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون كي تؤمن نصاب جلسة انتخاب الرئيس. إلا أن أياً من المتصلين بالفاتيكان وسفيره في بيروت المونسنيور غبريال كاتشيا لم يؤكد ذلك. وأشار هؤلاء إلى أنه إزاء تفكير من هذا القبيل، فإن الفاتيكان يريد التأكد من الاستجابة إلى طلبه قبل أن يتدخل في شكل حاسم. ومع أن هؤلاء يقولون إن دوائر الفاتيكان تبقي إمكان تحركه لضمان إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان على طاولة البحث، فإن مصادر سياسية قالت لـ «الحياة» إن الإفادة من مبادرة فاتيكانية كانت مدار نقاش أيضاً بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بحثاً عن مخرج للشغور الرئاسي. وذكرت المصادر أن تحرك جنبلاط الأخير تناول سبل إقناع العماد عون بسحب ترشحه والجهة التي يفترض أن تتولى التواصل معه لهذا الغرض. وفي المداولات التي جرت بين بري وجنبلاط، جرى التطرق إلى مثل العراق من زاوية أن تنحي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي جاء بعد تشبثه بالترشح لرئاسة الحكومة، نتيجة تدخل المرجعية الدينية الشيعية الممثلة بالسيد علي السيستاني لمصلحة اختيار غيره للمنصب وأن مبادرة السيستاني كان لها الأثر الأساسي في معالجة المأزق العراقي المتعلق برئاسة الحكومة، وبالتالي يفترض أن يلعب شبيه السيد السيستاني في لبنان دوراً في إقناع عون بالإحجام عن طموحه إلى الرئاسة، والفاتيكان هو المرجعية الموازية التي يمكنها أن تؤثر في ذلك، لكن التداول بهذه الفكرة لم يستكمل، إذ يترقب بعض الأوساط ما إذا كان تدخل البطريرك الماروني بشارة الراعي تجاه روما سيشمل هذا المخرج، الذي يشكك كثر بإمكان نجاحه. 2 - أن يؤدي الانفتاح السعودي - الإيراني عبر الزيارة التي قام بها نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان للمملكة العربية السعودية، حيث التقى وزير الخارجية سعود الفيصل، إلى بداية بحث في تفكيك التأزم الإقليمي في عدد من الدول، ومنها لبنان، وفي وقت تقر الأوساط المتابعة لهذا الانفتاح، في قوى 8 و14 آذار، بأن هناك ملفات معقدة عدة عالقة بين الجانبين، لها الأولوية على الملف اللبناني، فإن بعض هذه الأوساط «يأمل» لو أن طهران تبدي مرونة في الملف الأكثر سهولة، أي لبنان، لأنه الأسهل عليها أن تبدي الإيجابية فيه قياساً إلى اليمن والعراق وسورية. وآمال هذه الأوساط تستند إلى أن العلاقة بين طهران والرياض تحتاج، بالإضافة إلى انطلاقها من التلاقي على محاربة «داعش» والإرهاب، إلى إبداء حسن النية من جانب الأولى كي تقبل الثانية على مزيد من الانفتاح ومعالجة سائر ملفات الخلاف. وفي اعتقاد أصحاب هذه الآمال أن طلب طهران من «حزب الله» الإقبال على رئيس تسوية في لبنان بدلاً من مواصلته دعم العماد عون، كفيل بالخروج من الجمود في لبنان، من دون أن يمس ذلك بسياسة الحزب واستمراره بالقتال في سورية، ومجيء الرئيس نتيجة التسوية لن يقدم أو يؤخر في أجندة الحزب. إلا أن أوساطاً أخرى تقر بأن لا بد للانفتاح الإيراني- السعودي أن ينعكس إيجاباً على لبنان، تستبعد تقديم طهران تنازلاً من هذا النوع، لأن سياستها في لبنان مرتبطة بسياستها في سورية، بالإصرار على الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد، وبالتالي هي تتعاطى مع لبنان باعتباره ساحة تخدم هذه السياسة، وتخشى مجيء رئيس يعاكس الحزب في تدخله في سورية. وهي تفضل استمرار الشغور على المغامرة بمجيء رئيس موقفه غير مضمون لجهة غض النظر عن اشتراك الحزب في القتال هناك. وعليه، فإن دورها في تسهيل إنهاء الشغور في لبنان يتوقف على تغيير ما في موقفها في سورية، أو على تغيير في موقف السعودية، وأي منهما غير متوافر حتى الآن، لا سيما أن الحوار بين الدولتين يتطلب وقتاً. وعلى رغم اعتقاد المراهنين أن طهران تسهل انتخاب الرئاسة في لبنان، لأن هذه الخطوة تساعد في إنهاء الوضع الشاذ في البلد بشكل يساعده على مواجهة المرحلة الاستثنائية التي تشهد تمدد الأصوليات، فإن المتابعين لتطور العلاقات الإيرانية الخليجية يعتبرون أن هناك إشارات تغيير في المقاربة الإيرانية لأوضاع المنطقة، بإبعاد المالكي في العراق ورفع الرئيس حسن روحاني الصوت ضد المتشددين قبل أسابيع، واصفاً إياهم بالجبناء، وإبعاد الحرس الثوري عن ملف العراق بحيث بات في يد روحاني والخارجية الإيرانية التي أوفدت عبداللهيان إلى السعودية. وتفيد تقارير واردة إلى بيروت في هذا الصدد بأن المحادثات بين الفيصل وعبداللهيان جاءت بعد جدل طويل خلال الأشهر الماضية بين العاصمتين عبر الوسطاء، إذ كانت طهران تصر على أن جدول أعمال لقاء الجانبين يقتصر على بحث العلاقات الثنائية، فيما كانت الرياض تصر على بحث الوضع في العراق وسورية ولبنان، وأن إيفاد نائب وزير الخارجية كان مؤشراً على قبول طهران بجدول الأعمال الإقليمي الذي كان سابقاً في عهدة الحرس الثوري وحده. وفي وقت يقول حلفاء إيران في لبنان إن الذي تغيّر هو السياسة السعودية بعد اكتشافها مخاطر الإرهاب وتمدد «داعش» في العراق وقبلها في سورية، فإن القيادات اللبنانية المتصلة بالسياسة الخليجية تشير إلى أن المملكة وقفت ضد خيار بعض القوى السياسية العراقية السنية وبعض زعماء القبائل، التعاونَ مع «داعش» من أجل مواجهة سياسة المالكي الاستفرادية والاستبدادية ورفضت تغطية خيار كهذا، فلجأ هؤلاء إلى تغطية دول عربية وإقليمية أخرى، بينها تركيا، للحصول على تأييدها، ويشير هؤلاء إلى أن السعودية حذرت منذ البداية من خطر أي مراهنة على «داعش»، وهذا ما يفسر مسارعة خادم الحرمين الشريفين إلى الوقوف ضد الأخيرة في العراق، في وقت كانت طهران بين الدول التي استثمرت في «داعش» في سورية بذريعة إقناع الغرب أن الأسد يحارب الإرهاب وليس المعارضة السياسية المعتدلة لحكمه المستبد، وهذا انقلب عليها في العراق فشلاً في إدارتها بلاد الرافدين. ومع التقارب الأخير، تشير الجهات اللبنانية القريبة من دول الخليج إلى أن الأخيرة ما زالت تتعاطى بحذر مع التغيير الإيراني الذي أوجبه تمدد «داعش» في العراق، فهي تترقب مدى استعداد طهران لاستكمال إبعاد المالكي، باتجاهها نحو تشجيع حلفائها على قيام حكومة عراقية متوازنة في بغداد. ويفيد هؤلاء بأنه لا مؤشرات إلى أن ملف سورية في إيران بات في يد روحاني والخارجية الإيرانية، بل هو ما زال في يد الحرس الثوري، ما يضع شكوكاً حول إمكان التوصل إلى تقارب مع الرياض في شأنه، وفي شأن لبنان بالتالي.