(حتى الطيور الحبيسة لفترة طويلة لا تغادر أقفاصها عندما تفتح لها الأبواب.. فالقهر مثل الحرية «اعتياد»...) هذه المقولة تشكل تعميقاً مطردا لذلك التعليق غير الواعي بالقهر كمفهوم ومعايشة.. الطائر من تجارب عدة عندما تحبسه مدة طويلة، ثم تفتح له الباب لأي سبب إما لتطلق سراحه باعتبار هذا حقه، أو لتجرب هل يطير أم لا؟ بعض الطيور، لا تغادر لأنها فقدت الطاقة على الطيران أولاً، واعتادت القفص ثانياً، وقد يتعاكس ليكون أولاً.. اعتادت القهر، والحبس، لم يقتلها ولكنه دمرها وأعاد تشكيلها لتصبح مستمتعة بقهرها وتعتاده.. ينطبق ذلك على البشر نساءً ورجالاً.. ولكن النساء بشكل أكبر، فالمرأة التي يضطهدها رجل، ويهينها، ويجرح كرامتها، ويمارس عليها القهر، والألم يومياً، قد ترفض أن تغادره أن واتتها فرصة طلاق لأنها اعتادت حياتها معه، ولا تتخيل أن خارج مسكنها هناك حياة عادية خالية مما أدمنته واعتادت عليه.. امرأة يضربها زوجها، ويكيل لها كل أنواع العذاب، ومع ذلك تجيبك بأن كل الرجال سيئون، وأنا لست في حاجة إلى فزعة تحملها خارج المنزل.. ستبقى معه رغم كل شيء لأنها اعتادت عليه.. وقهره أصبح من ضمن مفردات الحياة اليومية..! زوجة أعرفها جيداً كانت معي فترة في عمل مشترك، تأتي مصابة بكدمات وإصابات واضحة، وفي إحدى المرات كسرت قدمها، وهي تحكي أن زوجها هو من يقوم بضربها تشعرك أنها تحكي حكاية غرام، وليست حكاية ضرب، على أتفه الأسباب يضربها، المرة الأخيرة قالت لي إنه كان ينوي السفر فطلبت منه أن يسهر معها طالما سيغيب مدة طويلة، تقول نظر إليّ ثم طلب كأساً من الشاي وعندما أحضرته، سكبه فوق جسمي، وبدأ يضربني ضرباً عنيفاً، ويشتم بمفردات سوقية، وأنا استمع وفيضان من القهر يسري داخلي عليها، كانت تكمل ببرود (سافر الله يرجعك بالسلامة).. سألتها لماذا لم تتطلقي؟ خاصة أنها بنت عائلة محترمة.. وحتى سنها كان قد وصل إلى الخامسة والأربعين: أجابت (أحبه) عندها سِكتْ الكلام، وأدركني الصمت مثلما أدرك النهار شهر زاد فسكتت عن كل شيء فطالما هي لديها القدرة على الاحتمال، والغوص في هذا الوحل المغموس بحبها، عليّ أن أخرج ولا أتوقف عند «ثمة ظلم يقع عليها». منذ سنوات شاهدت فيلما لمحمود عبدالعزيز لا أتذكر اسمه تدور حكايته حول سجين قضى نصف عمره في السجن، واعتاد على الذل، والإهانة، والضرب، والجلد وأدمن ما هو فيه، وقدس جلاديه، وتحول عذابه إلى انسجام تام مع كل لحظة تعذيب، عندما حانت فرصة مغادرته السجن، لم يصدق، وقاوم فكرة الخروج، لكن عليه أن يغادر، في الأيام الأولى حاول أن يستعيد حريته، خاصة أنه وجد ميراثاً يساعده على العيش بعودة محترمة، حاول أن يعيش العالم الخارجي بصدقيته وجماله.. حاول أن يعيش كإنسان حُر، وليس عبدا يتحكم فيه الجلادون.. عجز عن التعايش مع الحرية، لأنه اعتاد على من يقهرونه، عجز عن التواصل مع صديقه، والمرأة التي تحبه، فقرر أن يعود إلى اعتياده القهري من خلال الذهاب إلى السجن، والاتفاق مع جلاديه السابقين من الجنود، والمخبرين الذين كانوا يجلدونه، بأن يعملوا لديه في منزله بوظيفة جلادين، يدفع لهم من ماله، ليجلدوه. هيأ مكان السجن الخارجي في منزله، واشترى أدوات الجلد، واستعد لهم وكان يستقبلهم بفرح، وحب وسعادة طاغية، ويدفع لهم أجرهم، ويقف ليجلدوه كما كانوا في السجن، ولكن هذه المرة جلد مدفوع القيمة، وخارج السجن، وبالطلب، تتشكل هكذا حياته، وحتى صديقته التي كان يريد الزواج منها، يفشل لأنه لا يريد علاقة إنسانية طبيعية وسوية، يريدها أن تعذبه، تهينه، تجرحه، يغرق البطل في قهره، ويستعذبه كما هي الطيور التي ترفض مغادرة قفصها.. هو القهر إرث يحمله المقهور، ولا يعود بعدها قادراً على التخلص منه، بعد أن أصبح هو الأولوية في حياته يديرها كيفما يشاء ممنوحاً بالحق في الألم، متماهياً مع إحساس شاذ، ومبرراً له، ومتوافقاً معه، عاجزاً عن سماع الأصوات الأخرى، رافضاً تلقف أي رسالة حتى وإن كانت مفتوحة تحثه على المغادرة..