الغجر شعب فريد مثير منذ القدم، أدى به هذا التفرّد وهذه الإثارة إلى أن يكون محوراً للدراسات والكتابات والتأويلات التي تقترب أحياناً من الحقيقة، ولكنها تُجافيها وتتجنّى عليها كثيراً. فمعلوماتنا التي وصلت إلينا عن الغجر فيها من نسج الخيال أكثر مما فيها من صلب الحقيقة وصلابتها. الغجر شعب جوّال، لم يعرف الاستقرار الحقيقي على امتداد تاريخه، وعلى اختلاف الأماكن التي جابهتها جماعاته. وهذا الانتشار السريع لجماعات الغجر على رقعة المعمورة الواسعة ليس في كل الأحيان ثمرة أحداث تاريخية أو ظروف تاريخية بقدر ما هو طبيعة ثانية ترسخت في نفوس تلك الجماعات وتوارثتها جيلاً عن جيل، وغذّى ذلك كله تصور الجماعات المحيطة بهم عنهم. وما زالت آثار هذه البداوة الغجرية واضحة جليّة حتى بين أقدمهم عهداً بالاستقرار، بحيث أننا لا نملك إلا الدهشة والتسليم بهذا الميل الذي يكاد يرقى إلى درجة الاستعداد الطبيعي لديهم إلى التجول والارتحال، بل إن هناك مَنْ يزعم من الباحثين أن الجماعات التي استقرّت منهم إنما هي جماعات قد طُردت من عضوية الجماعة الغجرية التي كانت تنتمي إليها أصلاً بسبب الزواج من خارج القبيلة، أو سرقة إخوانهم من الغجر (وهو أمر محرّم بينهم أشدّ التحريم) أو الخروج على هذه القاعدة أو تلك من قواعد العُرف والتقاليد السائدة بينهم، ولكن الأغلبية من جماعات الغجر مازالت تعيش حتى يومنا حياة البداوة والتجوال الدائم في كل بلاد العالم. وقد اختلفت مواقف المجتمعات من جماعات الغجر التي تعيش بينها اختلافاً بعيداً، وتراوحت بين التجاهل والمقاومة العنيفة بحسب الظروف الاجتماعية والسياسية والتيارات الفكرية والأوضاع الاقتصادية السائدة، ولم تعدم المجتمعات أصواتاً إنسانية تدعو إلى تكامل تلك الجماعات وتحقيق اندماجها في المجتمعات القومية الكبيرة التي تعيش فيها. أصل التسمية والنشأة ظهرت كلمة Gypsies أول ما ظهرت في بريطانيا ودول الكومنولث والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1537م وأُطلقت على جماعات الغجر. وهناك أشكال أخرى لهذا الاسم تطلق على الغجر في مناطق عدة من العالم، مثل Singani أو Acingani، أو Ziegani في روسيا، أو Tshinghiane في تركيا، Zigeuner في ألمانيا، وZigari في إيطاليا، وZincali في إسبانيا. وإذا كانت كلمة Gypsies هي الشائعة بين الناس على جماعات الغجر والتي يطلقونها هم أيضاً على أنفسهم– إلا أن هذه الجماعات تُعرف أيضاً باسم Romany في أوروبا، والبعض يعتقد أن هذه الكلمة مشتقّة من كلمة روما Rom، فالرجل الغجري هو الذي يقع في طبقة منخفضة Man From Sanskritdoma ويفترضون أن هذا الاسم نتج عن طول فترة إقامتهم في الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تسمى قديماً روميه Roum. وعلى الرغم من أن هناك افتراضاً أن يكون هذا الاسم قد نتج عن طول فترة إقامتهم في رومانيا نظراً لوجود عدد كبير منهم، إلا أن بورو يرى أن الكلمة غجرية بصفة أساسية، وهي تعني ذلك الشخص الذي يكوذن له الجيتانوس (الغجر) الطاعة بينهم وبين أنفسهم. ويُطلق على الغجر أسماء عديدة ترتبط غالباً بصفات خاصة تُعبّر عن التصوّرات النمطية السائدة لدي الناس عن الغجر، ففي فرنسا يسمّون البوهيميون Bohemians لاعتقاد البعض أنهم يتّصفون بالفجور، وفي شمال أوروبا يعرفون بالتتر Tatars أي المتوحشون، والملاحظ أن الأسماء التي تطلق عليهم تتّصف بالغجر، وتطلق عليهم بعض الدول الاسم بناءً على نوع التجارة التي يعملون فيها كتجارة التماسيح أو أعمال الخزف، أيضاً أُطلقت عليهم أسماء ترتبط بالمكان الذي نشأوا فيه أو هاجروا منه أو الذي يعيشون فيه، فيُقال غجر المجر، غجر إنجلترا، غجر إيطاليا، وغجر إسبانيا. ولكن لا يستخدم تعريف الغجر بالرجوع إلى الدولة التي ينتمون إليها كثيراً، إذ لا يتضمن أي تعريف بالجماعة نظراً لأن هناك غجراً كالدراس في إيطاليا والسويد وروسيا ولا توجد بينهم إلا اختلافات طفيفة، فالاختلاف الوحيد هو أن اللغة الثانية لكل منهم هي لغة البلد التي يعيشون فيها. صفات الغجر لا يتوافر لدينا سوى مجرد إشارات متناثرة في كتابات غير متخصصة تُحدّد الملامح التي تتصف بها جماعات غجرية دون غيرها. وكان جورج مين G. Maine قد قرّر أن للغجري الحقيقي بشرة داكنة وشعر أسود وعينان لامعتان وأسنان برّاقة، ووصف البرفيسور تليهاجن Tillhagen غجرياً سويدياً بأنه كان قصير القامة ممتلئ الجسم ذا كتفين عريضين، وكان شعره شديد السواد، وجبهته نحيفة وعيناه بنيتان. ويرى البعض أنه يمكن تمييز السلالة النقية أو شبه النقية من الغجر تمييزاً واضحاً، فبشرتهم تميل إلى السواد بصفة عامة، وتتدرّج من اللون الزيتوني القاتم إلى البني أو الأسود. ووصف البروفيسور بينهارل Pinherle غجر Garinthian بما يلي: (معظم النساء كُنّ شقراوات إلا واحدة كانت لها الملامح والسمات الفيزيقية الهندية، أمّا الرجال فكانوا طوال القامة وممتلئين، وبدلاً من أن يكون لونهم زيتونياً، كانت بشرتهم حمراء قاتمة، ولكن كانت لهم الملامح الغجرية المعروفة: الوجه البيضاوي والحاجب المنخفض، والأسنان العاجية، والشعر الأسود الفاحم الذي يتدلّى مجعّداً على الأصداغ، وكانوا يتكلمون لغة الرومني ويحيون حياة الغجر، لكنهم يختلفون عن الغجر النموذجيين في لون البشرة على الرغم من أنهم لا يختلفون في الخصائص الفيزيقية الأخرى). أمّا من حيث المظهر الخارجي للغجر فيقول إنه ليس لهم ملابس قومية، فهم يرتدون ملابس البلد الذي يعيشون فيه، وفي بعض الجماعات يبقى الأولاد عرايا حتى سن 12 سنة إذا كان الجو يسمح بذلك أو إن لم تمنعهم السلطات من التجوّل عرايا، وفي بعض الجامعات يرتدي كبار الغجر ملابس ثقيلة، بعضها يشترونها مستعملة والبعض الآخر يحصلون عليه عن طريق الاستجداء. وتختلف الجماعات الغجرية في مدى حرصها على اقتناء الحُليّ أو المجوهرات، فبعض الغجر لا يكترثون لذلك، والبعض الآخر يهتم بالحُليّ والمجوهرات، ويهتم باستخدام أنواع الزينة المختلفة التي تُستخدم في بعض الأحيان تعاويذ ضد أعمال السحر. 1) الغجر الكالدراس The Kalderash Gypsies: وهي الفئة الوحيدة التي يعتقد أنها جماعة غجرية أصيلة، وهم كما يقولون حدّادون قبل كل شيء، ويعملون في الصفيح والنحاس، فكلمة كالدراس في لغة الرومني واللغة الإسبانية تعني المرجل أو الغلاية، وقد أتوا حديثاً من بلاد البلقان ووسط أوروبا، وانقسموا إلى خمس مجموعات: اللوفاري بويهاز لوري أو اللولي شيورازي تراك الأمريكيون. 2) الجيتانوس في فرنسا Gitanos 3) المانوش في فرنسا Manush: هم البوهيميون التقليديون، وينقسمون إلى عدّة جماعات فرعية: الفالسيكانز جي جيكانز بيمونتسي وهناك فروض تحاول تفسير أصول الغجر، وأهمّها: 1 - الفرض الذي يربط بينهم وبين البوهيميين الوافدين إلى فرنسا وكوّنوا جماعات عاشت بين الجوليارد Goliards وبين الجماعات الشديدة الأخرى في القرن الخامس عشر عندما ظهر أول غجر في وسط أوروبا ولم يختلف لونهم عن لون المشرّدين (البوهيميين). 2 - فرض يربط بينهم وبين الشعب اليهودي: نجد كولين دي بلانسي يذكر أن البوهيميين أو الغجر وفدوا من آشور وسيلوقيا (جنوب شرق آسيا الصغرى) ومن النوبة والحبشة ومن بلاد الكلدانيين، واعتقد بيلون Belon أن أصولهم على الأقل لم تكن مصرية، لأنه وجد تسجيلات تشير إلى أنهم عندما كانوا في القاهرة، كان يُنظر إليهم على أنهم أجانب مثلما حدث في أوروبا، ولهذا فهو يرى أنه من الطبيعي أن يعتقد أنهم هم اليهود الذين اختلطوا بالمسيحيين المشرّدين، وفي منتصف القرن الرابع عشر ابتُليت أوروبا، وبخاصة ألمانيا وفرنسا بوباء الطاعون، وقد وُجه الاتهام إلى اليهود بأنهم وضعوا السم في الآبار وخزّانات المياه، ممّا أثار سخطاً عليهم، حتى أن بعضهم فرّ إلى الغابات واتّحدوا ثانية ليؤمّنوا أنفسهم وقاموا ببناء مخابئ بأحجام مناسبة لكي يحتموا بها تحت الأرض ومن المحتمل أنهم هم الذين حفروا النقوش وأشكال النحت الموجودة في ألمانيا والتي لم يهتم بها أحد بصورة جدية، وبعد خمسين سنة ترك هؤلاء الخارجون على القانون أولادهم جحورهم بعد أن اعتقدوا أنه قد مات الذين كانوا يكرهونهم دون أن توجد لديهم مصادر تؤمّنهم ضد الفقر، لكنهم آنذاك درسوا فنون العرافة المختلفة، وبخاصة قراءة الطالع عن طريق الكف لكسب قوتهم، واختاروا لهم قائداً ورئيساً يدعى زوندل Zundel، وخوفاً من أن يُعرف من أين أتوا اتفقوا أن يذكروا أن أجدادهم كانوا يعيشون في مصر وهم في حقيقة الأمر من اليهود، وأن أجدادهم قد طُردوا من بلادهم لأنهم لم يقبلوا السيدة العذراء وابنها، وهذا هو السبب في أن أطلق عليهم مصريون، والسبب أيضاً في أن الإمبراطور زيجزموند SiGismond منحهم جوازاً للسفر.. وكوّنوا لهم لغة عامية أو رطانة سرية اختلطت باللغة العبرية والألمانية، حيث يتكلّمونها مع لهجة أجنبية، ومارسوا بعض طرق السرقة والاحتيال، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا نواة هذه الجماعات الغجرية، إلا أنها أصبحت بعد ذلك خليطاً من شعوب مختلفة بحيث لم يصبح لديهم ديانة سائدة أكثر من ديانة البلد التي يعيشون فيها. وحاول باحثون آخرون أن ينظروا للغجر على أنهم يهود حقيقيون، وكان منهم الألماني فاجنسيل Wagensiel الذي أسّس استنتاجه منذ عام 1700م على المظهر الفيزيقي، ولكن لا يمكن الآن قبول احتمال أن يكون الغجر من أصل سامٍ، وكل ما يمكن تأكيده هو وجود تماثل كبير بين ظروف تشتّت اليهود وظروف تشتّت الغجر، وبين الاضطهاد المتكرّر الذي عانى منه كل من اليهود والغجر. 1)وجهة النظر التي تربط بين الغجر وبين الحدادة: كل القصص والأحداث تصف الغجر على أنهم حدّادون في أنواع مختلفة، فهم يعملون في الحديد والبرونز والذهب والمعادن الثمينة، وكان الناس يعتبرون الشخص الذي كان يُطلق شراراً من طرقه على السندال ذا قوة سحرية خاصة، وكانوا يعتبرون المكان الذي يُمارس فيه هذا السحر مكاناً سفلياً. وإذا كنا نجهل كيفية بدء فن الحدادة في أوروبا، فنحن لا نجهله في آسيا القديمة، وبخاصة في الهند، فقد عمل في هذه الأعمال كل الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمع مثل البدو والطبقات المنبوذة التي يخافها الناس ويحتقرونها. والهنود كما هو الحال في كل مكان يربطون بين الذين يعملون في الحديد وبين العملاق أو الروح الحارسة، وهم كلهم أشكال للآلهة، وهذا يؤكد اللعنة التي تلحق بالجماعات المتجوّلة، وتلصق بهؤلاء الذين لهم صلة بمن يعملون في العالم السفلي والذين يحفرون الأرض والذين يروّضون الذبيحة. وقد ربطت الأساطير ربطاً واضحاً بين أنواع التجارة التي تتطلب استخدام النار وبين الفنون السحرية، وأكد إلياد Eliad أنه في مستويات ثقافية مختلفة توجد علاقة قوية بين فن الحدادة والسحر والتنجيم وما إليها: (الشمانية، السحر) وبين فن الغناء والرقص. 2)وجهات النظر التي تقدر أن الوطن الأصلي للغجر هو الهند: يقول كلارك إن لغة الغجر تعتبر فرعاً من السنسكريتية، وهي قريبة من اللهجات الحديثة في شمال الهند، ولاحظ السير هنري سليمان ما يؤكد احتمال أن يكون الغجر هم سلالة الدهماء الهنود الذين طردهم الغزاة التارتار Tartar من ديارهم، وأن لهجة الغجر تشبه تماماً لهجات شمال الهند، لدرجة أن الرجل الهندي الحالي يمكن أن يفهم تماماً قبائل الغجر الأوروبية، ويفترض آخرون أن الغجر كانوا قبائل بدوية تمارس السلب والنهب في الهند قبل أن يطردهم الغزاة، ويؤكدون أن محمود جاز نفيد حاكم الهند 997م إلى 1028م قد طردهم من الهند. بلا ديانة محددة من الثابت تاريخياً أنهم بلا ديانة محددة، لذا تعرّضوا للهجوم من رجال الأكليروس المسيحيين، وقوبلوا بالاحتقار وأحياناً بالانتقام، وضاعف هذا من شدة السخط الذي يواجهونه كجماعة، ويحكى أنهم بنوا كنيسة من الحجارة، وبنى الرومانيون كنيسة من اللحم، وظلّ الغجر يساومون الرومانيين إلى أن وافقوا على الاستبدال، بعدها أكل الغجر كنيستهم! وفي بلغاريا وتركيا يقولون إن الله عندما وزّع الأديان المختلفة كتب الغجر ديانتهم على ورقة كرنب، وأتى حمار وأكل الورقة. تصوّرات تكوين جماعات الغجر 1) النشأة واللغة: أُشيع أنهم نغول أتوا من أصول غير طبيعية مما أحاطهم بكراهية بسبب سواد بشرتهم واستخدامهم للغة غريبة وما نسب إليهم من أعمال السرقة وغير ذلك، بدأ نوع من الغزو لطبيعة شخصيتهم، بينما قيل أيضاً أنهم سلالة جنس من الأقزام عاش في مرحلة ما قبل التاريخ. ويرتبط بهذه القصص الاعتقاد بأنهم ورثوا اللغة نتيجة لبعض الذنوب التي اقترفها أجدادهم في الماضي فأصابتهم بلعنة شنعاء. 2) الاشتغال بالسحر: أدّى اشتغال الغجر بالسحر إلى الخوف الشديد منهم، وانتشرت القصص التي تقول إن امرأة غجرية مرّت بمكان به امرأة راقدة لتلد، وسألتها الغجرية إذا ما كانت تودّ أن ينتقل الألم إلى زوجها فوافقت، وفي لحظات كان الزوج يشكو ألماً شديداً في معدته بينما وضعت زوجته مولودها بدون ألم. وساد اعتقاد بأن لديهم القدرة على السيطرة على النار، فقد ساد في بروسيا الاعتقاد في أن الغجر يمكنهم أن يحدّوا من امتداد النيران بمجرد رسم خط يُحدّدها. ولا يخلو تراثهم مما يُشير إلى أنهم كانوا يمتلكون قوى سحرية خاصة فيما يتعلّق بأعمال الحب حتى اليوم، ومازال الخوف منهم يملأ قلوب الناس في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والمجر وغيرها. 3) أكل لحوم البشر: واتُهموا بأنهم يأكلون لحوم البشر، فكانوا يعتقدون في تركيا وألبانيا أن الغجر يحفرون القبور ويأكلون الجثث، ومرد هذا أنهم كانوا غالباً ما يحفرون ويدفنون موتاهم في أماكن غير مميزة ويصعب التعرف عليهم، فلم ير أحد من سكان البلاد قبر غجري. 4) خطف الأطفال: وشاع عنهم في أوروبا أنهم يخطفون الأطفال، وظل الخوف من خطف الأطفال منتشراً بسبب تعنيف الآباء للأبناء وتذكيرهم لهم بأن يحترسوا من الغجر الذين عُرف عنهم أسلوب الخطف وارتكاب أعمال إجرامية. وهناك قطعة شعر إنجليزية تقال في مناهج أطفال الحضانة، تقول لهم: (لقد قالت لي أمي لا تلعب أبداً مع الغجر في الغابة). 5) جلب القاذورات والتسبّب في تفشّي الأوبئة: ومن حسن الحظ أنهم وصلوا إلى أوروبا بعد تفشي وباء الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر لفترة طويلة، مما فوّت الفرصة على الأوروبيين في أن يتهموهم بالتسبّب في تفشّي الوباء. ورغم ذلك فقد ظلّوا متهمين بجلب القذارة والأمراض، وموضوع قذارتهم من أكثر الأساطير شيوعاً وأقلّها قابلية للتكذيب، فالناس في كل مكان يخافون من انتشار الأمراض نتيجة سكنى الغجر في مواقع بجوار منازلهم، فعندما اتهم الغجر في إيطاليا سنة 1910م بجلب الكوليرا لبعض المناطق طردهم الأهالي من هذه المنطقة، ولا يعتقد الناس أنهم مصدر للقاذورات والأمراض فقط، بل مصدر للفساد والفوضى التي يمكن أن تنتشر في الحدائق وفي مناطق أخرى إذا لم يتم التخلص الفوري منهم. 6) فساد الأخلاق: واعتبرهم الناس فاسدين أخلاقياً، فقد كتب كثير من الكُتّاب الألمان أن كل ملكات الدعارة كُنّ غجريات، كما نظر العامة إليهن على أنهن بغايا. ونظروا إلى رجال الغجر على أنهم يحاولون إغراء نساء غير الغجر، ويعتقد الناس أن الغجر يتمتعون بأفضل ممارسة جنسية من غيرهم، وتخلط عقلية الناس في هذا الصدد بين اعتبار الغجر فاسدين يمارسون الجنس وقتما أرادوا وكيفما اتفق، وبين الاعتقاد في أنهم يستمتعون بحياة طبيعية يمارسون فيها الحب والجنس بطريقة طبيعية وجذابة، بعيداً عن القيود الاجتماعية بفضل مظهرهم الوسيم وجاذبيتهم الرومانتيكية، فقد أظهرت الرسوم المختلفة الفتاة الغجرية جميلة جداً، وكان الشاب الغجري الوسيم موضوعاً للقصائد والأغاني الشعبية في إنجلترا وألمانيا بصفة خاصة. 7) تسلية النبلاء والحياة الخلاّبة: وقد حظي الغجر في بعض الأحيان بتقدير النبلاء، وكان أبناء الطبقة الأرستقراطية ينظرون إليهم على أنهم يعيشون نمطاً فريداً من الحياة لا يمكن لغيرهم أن يُقدمه، وأصبحت عادة أن يدعو أبناء الطبقة الأرستقراطية أو الحاكمة الغجر في بيوتهم بهدف إمتاعهم وتسليتهم بالغناء والرقص، وقد حاول بعض من هؤلاء حماية الغجر من بعض القوانين القاسية التي صدرت ضدهم– على أن التصوّرات التي صوّرت الغجر على أنهم نبلاء يعيشون حياة خلاّبة لم تؤثر إلا في قلّة من الناس –خاصة الطبقة الأرستقراطية– وظلّت التصوّرات السلبية عن الغجر تشغل عقلية أغلبية الناس وتؤثّر في اتجاهاتهم نحو الغجر، الأمر الذي أدى إلى كثير من ألوان التحيّز الرسمي وغير الرسمي ضدهم. غجر مصر وحلب والنَوَر والعرب - الغجر في مصر قدّم لنا البحّاثة سيتزن سنة 1806م وصفاً قصيراً لغجر مصر، وذكر أنهم يوجدون في مصر وسوريا وأنهم يوجدون في كل أنحاء المملكة العثمانية، وأشار إلى أنه قام بزيارة جماعة تقيم بخيامها السوداء في بستان للزيتون، وقد تميّز بعضهم ببشرة سوداء متّسخة وشعر أسود متدل على الجانبين في شكل ضفيرتين، وكانت شفاههم تشبه ملامح بقية المصريين، وقد وشمت النساء دقونهن أسفل الشفاه بلون أزرق قاتم –مثل نساء البدو– كما وشمن أنفسهن ببعض النقاط من نفس اللون حول الفم، كما ارتدين الأقراط أيضاً. وكان عمل هذه الجماعة صناعة المناخل من شعر الخيل أو الجلد، وصناعة المسامير الحديدية والأدوات وإصلاح أباريق الشاي، وكانوا يبدون في مظهر الفقر الشديد، وكان رجالهم شبه عرايا تماماً، وكتبوا كلمة غجر بأشكال عديدة، مثل ججر Gogar والمفرد منها ججري Gagari، وكتبوها غجر Ghagar أو Ghajar. وقد وصف كريمر الغجر الذين يدعون أنفسهم صعايدة بأن سماتهم هي سمات الآسيويين، فلونهم أخضر وعيونهم سوداء حادة، وهم ذوو شعر أسود مستقيم، وأن النساء يضعن ألواناً زرقاء على الشفتين واليدين والثديين (الوشم)، ويلبسن أقراطاً كبيرة من المعدن وعقوداً بها حبّات زرقاء وحمراء، وأن المرأة الغجرية رغم أنها تتميّز بالبشرة الصفراء والشعر الأسود الذي يتدلّى على الجانبين في شكل ضفيرتين، إلا أن هناك تشابهاً بين ملامح المرأة الغجرية وبين جيرانها الفلاّحات، وقيل إن الغجر أنفسهم يذكرون أنهم يتكوّنون من عدة قبائل، وأن كل قبيلة تعتبر نفسها قبيلة عربية أصيلة، وهم فخورون بانتسابهم إلى السلالة العربية الخالصة، ويبدو أنهم هاجروا من غرب أفريقيا غير أن تاريخ هجرتهم غير معروف، ويرى كريمر أن انتماءهم للمذهب المالكي السائد في كل شمال غرب أفريقيا يثبت صحة ادعائهم بالانتساب إلى هذه المنطقة. - غجر قبائل الحلب يُعتقد أنهم هاجروا من الغرب، وأن أصولهم ترجع إلى اليمن وحضرموت، وهم يؤكّدون أن تاريخهم المُبكّر سُجّل فيما يُعرف بتاريخ الزير. ويقول المؤرّخ نيوبولد إن قبائلهم طُردت من اليمن مع اضطهاد الزير ملك جنس الـTuba ومارسوا التجوال في سوريا ومصر وإيران وأوروبا وأُعفوا من الضرائب وحصلوا على حق التجوال في البلاد دون مضايقات أو تحرّشات. غير أن بعضاً من غير الغجر يُقرّون أن الحلب وفدوا أصلاً من مدينة حلب بسوريا، ويرى فريق منهم أن الحلب وفدوا منذ أكثر من خمس مئة عام بسبب المجاعات. - قبائل النَوَر هم معروفون منذ القرن العاشر، ويوجد منهم الكثير في سوريا والأردن وإسرائيل وغيرها. ومن أهم معالم تاريخ الغجر ارتباطهم بشخصية تسمى الزير سالم، وإذا كان قد ذُكر أن تاريخ الزير يرتبط بالحلب فقط فإن قصة الزير معروفة لدى جماعات الغجر المختلفة في مصر. ويلاحظ أن غجر مصر يخجلون عندما يذكر لهم اسم الزير سالم وكأنهم يشعرون بالعار أو الهزيمة، والقصة تحكي صراعاً بين الزير وبين جسّاس – وهم أبناء عمومة – تحاربا على رئاسة القبيلة، ويعتقد الغجر أن قائدهم كان جسّاس فسمّوا أنفسهم عرب جسّاس، ولكنهم هُزموا شرّ هزيمة على يد الزير سالم الذي حكم عليهم أن يركبوا الحمير إلى الأبد، وحكم على جماعته أن يحرثوا الأرض، ولذلك يحاول بعض من غير الغجر إغاظتهم بمجرد ذكر كلمة الزير. غجر مصر وغجر البلاد العربية: نستطيع تلمّس وجود علاقة بين غجر مصر والغجر في المنطقة العربية من خلال نواح معينة: الأولى: تتشابه أسماء الغجر في البلاد العربية مع أسماء غجر مصر، ففي السودان يعرف الغجر بالحلب، وفي سوريا وفلسطين ولبنان بالنور. الثانية: كانت هناك صلات بين غجر المنطقة العربية، إذ يعودون إلى أصول واحدة. وقد تركوا وطنهم الأصلي بسبب الحرب والاضطهاد وتشرّدوا في البلاد فذهب البعض إلى شبه الجزيرة العربية، والآخر إلى بيزنطة أو أرمينيا. وإذا سلّمنا بوجود غجر مصر من شبه الجزيرة العربية، فإن هذا يؤكد الصلة بين غجر مصر وغجر البلاد العربية، وكذلك الصلة بينهم وبين غجر العالم. بالإضافة إلى ذلك فإن بعض عناصر التاريخ الغجري المكتوب والمتناقل شفاهة يوجد بنفس تفاصيله لدى الغجر المقيمين في أكثر من بلد عربي، وعلى سبيل المثال فإن قصة الزير سالم موجودة بنفس تفاصيلها لدى غجر مصر وغجر فلسطين. والثالثة: أن هناك تشابهاً في الظواهر السائدة لدى غجر مصر وغجر البلاد العربية الأخرى، فالظواهر التي وصفها فيلكن Filkin عند غجر دارفور مثل المهن والأعمال والملابس والرقص والتسمية والظواهر المتعلّقة بعفّة النساء ونموّ العلاقات مع غير الغجر تتشابه تماماً مع تلك التي تسود بين كثير من الجماعات الغجرية في مصر. الغجر في الدولة العثمانية وأكّد المؤرّخون والخبراء بشؤون الغجر أن إقليم البلقان هو الموطن الثاني للغجر ويُرتّبون ويُصنّفون اللهجة الرومانية –لغة الغجر– على أنها لغة هندية، وهذا التأكيد على الدور المهم الذي لعبته أرض البلقان في تشكيل ثقافة ولغة الغجر ليس مجرد تعبير متفق عليه فقط، وإنما هو تعبير مبني على بحث علمي جاد خلال رحلتهم من أقصى الهند إلى وسط وغرب أوروبا. استقرّ الغجر الرومانيون في شبه جزيرة البلقان لقرون عديدة فيما بين القرنين التاسع إلى الحادي عشر الميلادي، وحيث أنهم بدأوا دخول غرب أوروبا خلال القرن الخامس عشر فقط، فلابد أنهم عاشوا في إقليم البلقان مدة خمسة قرون على الأقل، وكان لذلك تأثير واضح على تطور الخصائص الرئيسة للغجر كجماعة بشرية وعلى ثقافاتهم، بما في ذلك اللغة بالإضافة إلى أن أعداداً كبيرة من الغجر قد بقيت في البلقان مقيمين فوق أرض الإمبراطورية العثمانية وولاياتها خاصة عند مراكز نهر الدانوب لمولدافيا وفالاتشيا، وبالتالي في الولايات التي أُقيمت داخل حدود الإمبراطورية السابقة للدولة العثمانية وهي ولايات ظلّت على ارتباط بتلك الإمبراطورية. أمّا في العصور الحديثة فقد هاجرت أعداد كبيرة منهم عبر العالم بما في ذلك ما يطلق عليه الغزو الكبير لطارقي النحاس (الكالديراري) خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مشكلة موجات الهجرة من يوغوسلافيا السابقة في ستينات القرن العشرين حتى ثمانيناته، كالهجرة إلى رومانيا التي أعقبت تغيرات عام 1989م في أوروبا الشرقية وتلك التي يمثّلها اللاجئون في البوسنة وكوسوفو، وقد حملوا معهم آثاراً ملحوظة للتلاقح الثقافي واللغوي مع الشعوب الأخرى التي سيطرت على إقليم البلقان. ويعود أول ذكر للغجر في وثائق الضرائب للإمبراطورية العثمانية عام 1430م، وهو موجود في سجل التيمارز مسجل به 431 أسرة غجرية يمثلون 3.5% من جملة المُسجّلين بوجه عام، وتفيد وثائق محفوظة أن الغجر المسلمين قد مُنعوا من الاختلاط بالغجر المسيحيين، وكان عليهم أن يدفعوا ضريبة أعلى لو وقعوا في ذلك، إذ على المسلم أن يعيش فقط بين المسلمين، وإذا خالف فعليه أن يدفع ضريبة الرأس بنفس القيمة الضريبية المفروضة عليهم، والقراران متعارضان فالممارسات المعتادة على أيه حال، أن يقوم المسيحيون بسداد ضريبة أكبر من المسلمين. واستمر استخدام الغجر في الجيش العثماني حتى نهاية القرن الثامن عشر، إذ يذكر راهب صربي في تقاريره السرية التي كان يرسلها للجيش النمساوي عام 1737م أن دفاع مدينة كوسوفو قد تُرك بأيدي الغجر، في حين قام الغجر بأداء دور في الدفاع عن كوسوفو ضد الغزاة النمساويين عام 1788م مرة أخرى، وقد عمل الغجر في ظل العثمانيين في العديد من المهن: موسيقيين (سازندي)، مثل جماعة كارا أوجلان ابن أُرخ أو بورو ابن كيريال وعازف الكمان هيزير. في كل مكان يقوم الغجر بالعزف والغناء بسرور مستخدمين آلات الفيولين والأشبه بالآت السيمبالو والطمبورة، وكلها تشبه الجيتار ولكنها تحوي خمسة أوتار فقط، وكانت الآلة الموسيقية الأهم آنذاك الزورناس– وهي نوع من آلة البورا، ثم آلات النقر (الطبول)، والتامبورين والوتريات وكان يرقص على موسيقاهم نساء يطلق عليهن (الشنجي)، أحياناً كُنْ من النسوة اليهوديات اللواتي كُنّ يقمن بتسلية الموظفين الأتراك والتسرية عنهم (بالإضافة للرحّالة الأجانب) في الحانات والمنازل. ولابد من الإشارة إلى وجود حرفة نادرة إلى حد ما، وهي مهنة تمارسها نساء الغجر في الإمبراطورية العثمانية، كن يشتغلن في مهن غير قانونية في مقاطعة روميليا وإسطنبول وصوفيا وفيليبي مقابل ضريبة مرتفعة يدفعنها لتقنين الأعمال المنافية للآداب تحت ستار قانوني. وبعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908 تم تقييد سلطات أسرة السلطان في الإمبراطورية العثمانية بصورة ملحوظة واتخذت البلاد طريق الإصلاح السياسي مما انعكس على مصير الغجر الذين مازالوا باقين ضمن حدود الإمبراطورية وداخل ولاياتها التي خضعت لها ذات مرة في البلقان، وهاجر منهم الكثير إلى بلغاريا وغيرها.