كان يمعن النظر في السحاب طويلا مؤملا مطرا وشيكا يوفر مرعى لأغنامه وطقسا يسهم في تخفيف حدة البرد وقسوة الأيام على طفل يتيم، كانت أيام مستقبله حبلى بمفاجآت سعيدة، ذلك أن أحمد بن حامد الغراني ابن الطبقة الكادحة ومن جيل المنافسة الشريفة سكنه طموح مبكر فهجر أغنامه في واد مخضر في بني كبير واتجه للرياض، ولم يتعاطف معه أحد كونه دون العاشرة فعمل في بقالة براتب ريالين يوميا، وعندما جمع في صيفية راتب شهرين عاد إلى الباحة ليكمل المرحلة الابتدائية ويعود إلى الرياض مجددا مطلع الثمانينات الهجرية وهو يحمل حفيظة نفوس أصدرها حامد الدميني من بلجرشي بعد توسلات ودموع وشرح لمعاناة يتيم مدرسته الحقيقية في ميدان العمل والكدح. حاول البحث عن وظيفة في العاصمة فلم يمنحه أي مسؤول فرصة للحوار عدا مدير شؤون مالية وإدارية في وزارة المالية قال له لا زلت صغيرا على العمل الحكومي فخرج مكسور الوجدان، وباشر العمل في حراج الخضار والفواكه والذي كان سبب يأسه بالأمس يفتح له نافذة الأمل، وبعد أن اشترى المدير العام خضار وفواكه من هذا الشاب وأعجب بلباقته وتفرس ملامحه وقال له: كأني أعرفك، فرد عليه: كنت في مكتبك بالأمس أبحث عن وظيفة وأنا معي مؤهل الشهادة الابتدائية وحفيظة نفوس، فقال: إذن تأتي غدا للمكتب و«يصير خير». وبالفعل بدأ العمل في وزارة المالية في الرياض ولم يكن يضيع الوقت فبعد انتهاء الدوام ينطلق للسوق يبيع ويشتري ويتكسب في (مقيبرة)، وبعد المغرب يدرس ليلي برغم احتشاد التطلعات والرغبة في التفوق إلا أنه كان واقعيا وفطنا ومكتنزا بالرغبة في التعلم والتدريب والإفادة من خبرة من سبقه، ومن وزارة المالية اختار النقل لفرعها في الباحة، ثم مديرا للأوقاف والمساجد في منطقة الباحة إبان إدارتها من وزارة الحج، ثم مديرا عاما للأوقاف والمساجد في المدينة المنورة، ثم مديرا فعليا لأوقاف الباحة ومساجدها بالتعاقد بعد أن بلغ أربعين سنة ولمدة 12 عاما ليكون مجموع سنوات خدمته للوطن 52 عامًا ولا يزال أبو حامد يتمتع ببياض القلب واخضرار الذاكرة وعفة اليد واللسان.