×
محافظة المنطقة الشرقية

«15» عاما على غياب ضمير اليمن «البردّوني»

صورة الخبر

قد يكون من المسلمات عند كافة الراصدين للأوضاع الإنسانية، عبر التاريخ الحضاري استمرار الصراع الطائفي، والمذهبي. بل أكاد أقطع بأن كل يوم تطلع فيه الشمس، يطلع علينا مذهب إسلامي جديد، يتلقى الراية، لمواصلة الصراع الأزلي، والتفاني في تجذير الذات، واجتثاث الآخر. حقل الطوائف، والملل، والنحل في (مكتبتي) من أوسع الحقول، وأشدها تنافراً. وكلما ألممت به، أحسست بدوار فكري، محفوف باليأس، والقنوط. وأيقنت بأن الوفاق كالغول، والعنقاء، والخل الوفي. وحين يصبح الوفاق رابع المستحيلات، فلا أقل من تلمس منافذ أخرى للخلاص من الفوضى القاتلة، وإيقاف الدمار المزْرِي، والحيلولة دون الفشل، وذهاب الريح. المؤكد أن من معوقات التعايش تقحم اللعب السياسية القذرة، والإيغال في (الأدلجة) المتعصبة، والتسييس لغير المسَيَّسِ، وتلقي الراية من أحداث أغرار، يستخفون بالدماء، ولا يذكرون الله إلا قليلا. لقد مرت بالأمة الإسلامية فترات هدوء، وتعايش، تجاوز فيها المسلمون خلافاتهم، واشتغلوا في القواسم المشتركة، وشغلتهم معايشهم، وتطويع الاستعمار لهم. وحين خلصوا من بعض مساوئه بإغلاق ثكناته، وطرد مناديبه، عاد بدسائسه، وطابوره الخامس، و(غزوه) و(تآمره) وتقسيماته الإقليمية، والعرقية، والطائفية. وبذل أقصى مايقدر عليه لتعزيز القوميات، والطائفيات، وتخويف كل فئة من أختها، وخلق مناخات متوترة، وإغراء الجيش بالانقلابات: البيضاء والحمراء، وفتح ملفات تجاوزها الزمن، وجهلها الناس. ومما زاد الحال سوءاً مبادرة الأحداث العُزّل لأزمة الأمور، وعودتهم لما نهوا عنه، بأقصى ما يستطيعون من عنف دموي، وتشويه متعمد للإسلام. وكم من جهلة متعالمين، لا يحسنون التعامل مع ظاهرتي (الغزو) و(التآمر)، واجهوا تلك الحقيقتين بفهم سقيم، وجدل عقيم. فمن ناف لهما، ساخر بمن يضع لهما أي (اعتبار). ومن معتمد عليهما، مسقط من خلالهما كل مسؤولياته عن الإخفاق، والتخلف، والتبعية. والمقاربات الحادة لهما، زاد من آثارهما السيئة. والحق أن أعداء العروبة، والإسلام، تتنوع مؤامراتهم، وتتعدد وجوه الغزو والتآمرعندهم. وليس من الحصافة أن نركن إلى شيء من ذلك، إذ لابد من حديث لكل حدث، ومقال لكل مقام. الشيء المؤكد أن من أولويات الأمة العربية الجنوح إلى السلام، والتصالح مع نفسها أولاً، ونبذ الخلافات الوهمية، والاشتغال في القواسم المشتركة. ثم العمل على التصالح مع خصومها، ذلك أن أوضاعها كلها، لا تساعدها على المواجهة، وحسم الخلافات بالقوة. إن أهم شيء في حياة الأمة استيعاب الأزمات، وأخذها على وجهها، والبراعة في حسن إدارتها. الأمة العربية مأزومة. بل أكاد أقطع بأنها موبوءة، تخنقها أزمات: سياسية، واقتصادية، وفكرية. ومما يزيد ارتكاسها في حمأة الخبال، أنها لما تزل مستهلِكة متخلفة. تستورد الإبرة، والخبزة، والمحراث، والصاروخ. ولولا ما استودعه الله في أرضها من كنوز، ولولا ما منحه الله لموقعها الجغرافي من أهمية، لما اتَّجه لها الغرب، ولما حفل بها. وهي لكي تختصر الجهد، والوقت، والمال، وتنهض من كبوتها، لابد أن تعيد حساباتها، وأساليب حياتها، وعلاقاتها، وسائر مفاهيمها، وممارساتها. لا نحلم بالوحدة، ولا نحلم بالطفرات، ولانفكر بضربات الحظ. الواقع يحكم الأحلام، والطموحات.ومن جهله، أو تجاهله، أضاع جهده، ووقته، وسائر منجزاته. لقد قتل المفكرون بألسنتهم، وأقلامهم، وكلماتهم، وكتبهم، ومحاضراتهم، وندواتهم، ومؤتمراتهم أسباب التخلف، وطرق النجاح. وأعدوا التوصيات، وندبوا إلى الحلول. حتى لقد مَلَّ الناسُ من التهريج، والتنظير، والمثاليات، والوعود الكاذبة. ولم يبق إلا الوعي التام، ومبادرة العمل الجاد، لوقف التدهور، ثم التفكير بالخطوة الأولى في سبيل التصحيح. ولن يتأتى للأمة التائهة شيء من ذلك، إلا إذا أغلقت ملفات الطائفيات والمذهبيات، والإقليميات، والعرقيات. واتجهت صوب كلياتها الإسلامية، وعلاقاتها الإنسانية. وإذا كان الله جل وعلا قد حَمَّل رسوله مقولة:- {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} و{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} فإن بإمكان الناصحين للأمة المقيلين لعثراتها المهلكة، أن يقولوا فيما بينهم (لكم مذاهبكم، ولنا مذهبنا) إذ لا مجال للتنازلات المُخلة بالثوابت، ولا للاتفاق المُطلق.لأن كلاً يدعي أنه على حق، ويحتكر الحقيقة. وكل له مرجعيته: النصية، والشخصية. وحين لا يمكن التنازل عن شيء من المعتقدات، والتصورات، فلا أقل من التعاذر، والتعايش، وحقن الدماء، وتوجيه كامل الجهود للبناء، والإنتاج، لملء البطون الخاوية، وتأمين النفوس الخائفة، وتوفير الحرية للمضطهدين، وإعطاء الأقليات حقها الذي تتوفر فيه على كرامتها، وحريتها، وحقها في العيش الكريم. ما أخشاه أن يؤدي هذا التشرذم المخيف، والمحبط إلى اعتزال النخب، لكافة المشاهد، وتركها للمهتاجين العُزل الأغرار، الذين لا يملكون فكراً، ولا علماً، ولا تجربة، ولا خوفاً من العواقب الوخيمة. وعندها تكون الطامة الكبرى. إن الواقع المرير يستدعي حُسْن التفكير، وسلامة التدبير، والخلوص من عنق الزجاجة، بأسرع الأوقات، وأقل الخسائر. ولن يتأتى شيء من ذلك، والمتشرذمون يتطاولون على بعضهم ببادي الرأي، ويتمسكون بأساليب معالجتهم للمواقف، وإدارة الأزمات. لابد من الاعتراف بالخطأ، والبحث عن طريق قاصد، يحول دون مزيد من الانهيارات. ولابد من الإصاخة لدعاة الوفاق، والتقارب، والحوار، والتسامي فوق الخلافات. فالمشاهد لما تزل قابلة لتفادي السقوط النهائي، ولما تزل الخيرية باقية في هذه الأمة، وأمل الخيرين بالله مكين، ولكن لابد من مساءلة الذات، قبل مساءلة الآخر، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }. إننا حين نصر على تزكية أنفسنا، ثم لا نُقَوِّم خططنا، وأساليب ممارساتنا نحول دون المراجعة، والتقويم، وقراءة الأحداث بتجرد. ولن نكون أمة قابلة للبقاء، والعيش الكريم، حتى نستفيد من أخطائنا، وحتى تكون لدينا ثقة بأنفسنا، بحيث لا نخاف من النقد، والمساءلة، وقراءة الأحداث بتجرد وواقعية، وتقويم الأداء، واستدعاء فقه الواقع، والأولويات، والتمكين. فقه الواقع: يصوغ خطاباً لكل حدث. وفقه الأولويات: لا يقفز على الحواجز. وفقه التمكين: يعرف قدر الذات. و(رحم الله امرأ عرف قدر نفسه). الفاجعة أن تسمع كل ما يقال، وأن ترصد كل ما يفعل، ثم لا يتراءى لك في الأفق بصيص أمل، لجمع الكلمة، ورأب الصدع، وحقن الدماء. إنها فوضى فكرية، وسياسية، وأخلاقية، تعلو فيها لغة السلاح على لغة القول. ولم يبق إلا العناية الربانية:- (وَمَا اسْتَعْصَى عَلى قومٍ مَنالٌ إذا (الإخْلاصُ) كَانَ لهُم رِكابا).