×
محافظة المنطقة الشرقية

شركة الناصر للتجارة تفتتح فروعاً جديدة

صورة الخبر

عندما تفتقر البيئة لأي مشهد فني أو ثقافي فهذه إشارة لفقر المجتمع الذي يعيش في هذه البيئة فكرياً وروحياً واقترابه أكثر من دائرة التطرف، ولنا في مسيرة مجتمعنا مع الفنون خير مثال على ذلك، فعندما نستعرض الحقبة الزمنية التي عاشها السعوديون من الستينيات وإلى منتصف الثمانينيات الميلادية نجد أنها فترة ذهبية للفن الغنائي في مختلف مناطق المملكة وشهدت تنافساً مثيراً بين عدد كبير من الرموز الغنائية التي ظهرت في وقت واحد وساهمت في تكوين حراك فني لافت، كل هذا لم يكن إلا لأن المجتمع كان متسامحاً مع الفنون ومتصالحاً مع الفنان ومرحباً بحضوره في المناسبات الاجتماعية على اختلاف أنواعها، فكان الفنان بذلك جزءاً رئيساً من تكوين المجتمع وشريكاً مهماً في إشاعة الفرح؛ في حفلات الزواج والمناسبات السعيدة. تبين تلك الفترة -خاصة بداية الثمانينيات- الأسلوب النموذجي في بروز عدد من الأصوات الغنائية التي بدأت أصلاً من خلال الحفلات الاجتماعية الخاصة التي تقام للزواجات وعلى مسارح عفوية متحركة ينشئها الفنانون على قارعة الطريق وأمام الملأ للاحتفال مع الناس في مناسباتهم، قام بذلك فهد عبدالمحسن وسعد جمعة وعبدالرحمن النخيلان وسعد النخيلان ومزعل فرحان. لكن قبل ذلك كان الراحل عيسى الاحسائي صاحب حضور اجتماعي كبير فلا تقام مناسبة اجتماعية كبيرة في المنطقة الشرقية ونجد إلا وتجده من ضمن المدعويين لإقامة حفل غنائي، وكذلك فهد بن سعيد الذي قدم العديد من المناسبات الخاصة، والتي تم توثيقها في أشرطة "الفيديو" خاصة، وكذلك بشير حمد شنان، والكثير من الحفلات التي قدمها سعد إبراهيم وسلامة العبدالله وحمد الطيار وبعدهم صالح السيد وحمدي سعد وغيرهم. كان المجتمع متناغماً مع الأعمال الفنية ولم يكن يخجل من الفنان ولا من الاعتراف به، وذلك قبل أن يتغير الواقع منذ نحو ثلاثين سنة بعد أن انتشرت قناعات متطرفة أثرت على فكر المجتمع. وحتى ذلك الحين كانت كل الشواهد تقول إن الفن كان طقساً اجتماعياً يتعاطى معه جميع أفراد المجتمع بأريحية ودون عُقد، ومن ذلك ما شهدته نشأة الأغنية في نجد عندما كان رموزها المؤسسين يجتمعون في منزل عبدالله السلوم وبحضور أبنائهم ليحيوا ليالي السمر والفرح، وكذا الحال في الحجاز حين كان عبدالرحمن المؤذن "رحمه الله" يحيي حفلات الأعراس بعد قيامه بواجب آذان وصلاة العشاء. هذه الشواهد المثبتة تاريخياً تعطي حقيقة مفادها أن أهم سبب لتطور الفنون هو قبول المجتمع واحتضانه للفن والفنانين. ومن الأمثلة التي توضح حالة التسامح هذه ما قام به الراحل طلال مداح عندما غنى في حفل زواجه أغنيته الشهيرة "وردك يا زارع الورد" في نهاية الخمسينيات. هذا التعامل الاجتماعي رفع من قيمة الفن والفنان كما جعل الأغنية قريبة من وجدان المجتمع تعبر عنه وعن مزاجه وذوقه. ولأن الفنان وقتها لم يكن ذلك "الداشر الفاسد" فقد كان متواصلاً مع أبناء المجتمع وقريباً منهم إلى درجة جعلته قادراً على التعبير عن مشاعرهم بصدق كبير. ومن أهم الإشارات على تسامح المجتمع مع الفن إنشاء سوق في قلب الرياض للآلات الموسيقية هو سوق "الحلة" وبترخيص رسمي، فكان مركزاً مهماً للفنانين الكبار وللنشء الجديد الذي يبحث عن تقديم نفسه في الغناء وشراء بعض الآلات الموسيقية والتعلم على العزف. هذا النشء بعد منتضف الثمانينيات قُتلت مواهبهم من خلال تحوّل موقف المجتمع ضد الفن وضد الفنان إلى الحد الذي تم فيه تجريم هذا الفعل وتشويه سمعة من يتعاطى معه. منذ منتصف الثمانينيات انتشرت آيدلوجيا تستهدف "الفرح" وتحارب الفن والجمال، وتغلغلت هذه الآيدلوجيا إلى عمق المنزل السعودي وبتنا نرى رفضاً لانتماء أبنائهم للفن، وعزلاً تاماً للفنان، وتهميش دور الفن في الحفلات والمناسبات الاجتماعية، وبرزت في تلك الأيام ملاحقة الشباب وتكسير أعوادهم وآلاتهم الموسيقية أمام عينهم بدعوى الاحتساب ضد المنكر المتمثل في الموسيقى. هذه الأفكار التي تأخذ بأقوال معينة من الفقه الإسلامي، والتي أهملت أقوالاً أخرى من فقهاء أكثر تسامحاً مع الغناء، أدت إلى تدمير الأغنية السعودية كما ساهمت في توقف "أستوديو رقم واحد" للإذاعة والتلفزيون والذي تبنى في فترة الثمانينيات تقديم المواهب وبرز منهم رابح صقر وغيره. إضافة إلى أنها جعلت من الداعمين للفن في بدايته الإبتعاد عن الوسط وعن الفنانين لأن التواصل معهم بات فعلاً مخجلاً ومخزياً ولا يليق. وكان من ثمرة ذلك أن ابتعدت المواهب الحقيقية عن المشهد الغنائي تاركة الساحة لأنصاف الموهوبين، كما كان من نتائجه المؤثرة الفقر الفني الكبير الذي يعيشه المجتمع الآن والذي جعل من الشباب فريسة سهلة لأفكار متطرفة كارهة للحياة والفرح.