تثير الضربات الجوية الأميركية ضد معاقل «الدولة الإسلامية» -أو ما بات يعرف بتنظيم «داعش»- في العراق الكثير من الأسئلة، ليس فقط حول الدوافع الأميركية لها وما هو المتوقع منها، وإنما أيضاً حول المصالح الكامنة وراء هذا التحرك «المفاجئ» وقدرة الإدارة الأميركية على إقناع الرأي العام والكونغرس الأميركي بجدواه سياسياً وأخلاقياً. فمنذ ظهور تنظيم «داعش» بشكل قوي ورسمي قبل حوالى عام ودخوله على خط «الثورة» في سورية،م تأخذه الولايات المتحدة على محمل الجد، أو على الأقل لم يكن هناك تخوف منه ومما يمثله. ولكن بعد أن «توحّش» داعش وتوغل في سورية والعراق قبل عدة شهور، ووصل الأمر إلى حدود إقليم كردستان وأكبر مدنه إربيل، فضلاً عن بداية ظهور التداعيات الإقليمية لـ «داعش»، بدأت أجراس الخطر تدق في واشنطن من قبل المحللين والمراقبين السياسيين. وقد كانت استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في التعاطي مع «داعش» قبل التطورات الأخيرة تستند الى أمرين: أولهما الحرص على عدم التورط بشكل مباشر في أي صراع عسكري في العراق أو سورية. وكان الداخل الأميركي عنصراً مهماً في حسابات الإدارة الأميركية، خاصة أن أوباما كان هو المسؤول عن سحب القوات الأميركية من العراق خلال الأعوام الماضية. ثانيهما، استخدام «داعش» وتوظيفه في العلاقة مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والضغط عليه من خلاله كنوع من العقاب، وهو الأمر الذي تمكن قراءته في ثنايا اللقاء الذي جرى بين المالكي ووزير الخارجية الأميركي جون كيري أثناء زيارة الأخير لبغداد في شهر حزيران (يونيو) الماضي والتي أوضح خلالها حجم الاستياء الكبير في واشنطن من المالكي وسياسته الطائفية تجاه السنّة في العراق، بل وتم إلقاء اللوم عليه بشكل غير مباشر في ظهور «داعش» واستقوائها بالعشائر السنية في الأنبار والموصل وتكريت. لذا لم يكن غريباً أن يتزامن التحرك الأميركي ضد «داعش» مع بداية التفاعلات السياسية في العراق حول خروج المالكي من السلطة وتعهد التحالف الداعم له بوقف السياسات الطائفية والعمل على تشكيل حكومة تضم الأطياف العراقية كافة. وقد ضغطت واشنطن بشدة على المالكي وبقية الأطراف الشيعية في العراق طيلة الأسبوع الماضي من أجل التنازل عن السلطة واختيار شخصية أخرى أكثر قبولاً، وتم الربط بين ذلك وبين إمكان التدخل لوقف تقدم «داعش» باتجاه بغداد. بكلمات أخرى، بد أن ثمة صفقة بين أميركا والمالكي ومن خلفه تحالفه السياسي، بأن أي تحرك أميركي عسكري تجاه «داعش» لا بد أن يرتبط بخروج المالكي من السلطة وإعادة تشكيل الحكومة العراقية بشكل يضمن تمثيل بقية المكونات السياسية، خاصة السنّة. وقد وفرت وحشية «داعش» وتقدمه باتجاه إقليم كردستان، لإدارة أوباما غطاء سياسياً للتحرك ضده، كما حاولت إدارة أوباما استغلال ما يقوم به «داعش» ضد الأقليات الموجودة في المنطقة ما بين الموصل وإربيل خاصة الأيزيديين من أجل الحصول على غطاء أخلاقي لتحركها. وهو ما أشار إليه أوباما قبل أسبوع في حواره مع الصحافي الأميركي المعروف توماس فريدمان حين برر ضرباته الجوية ضد معاقل «داعش» بأنها محاولة لوقف ما أسماه «عملية إبادة محتملة». قطعاً لم يكن البعد الأخلاقي هو المحدد الرئيسي للتحرك الأميركي الأخير تجاه «داعش»، ولم يكن الهدف هو حماية الأيزيديين الذين ربما لم يسمع عنهم أوباما إلا بعد ظهور «داعش»، ولكن كان من المهم البحث عن ذريعة «أخلاقية» يمكن تسويقها للرأي العام الأميركي من أجل قبول توجيه ضربات عسكرية أميركية في العراق، خاصة في ظل حساسية المجتمع الأميركي تجاه المسألة العراقية وما نجم عنها من خسائر كبيرة. من جهة أخرى، فإن التحرك الأميركي لا يمكن فصله عن المصالح الاستراتيجية في إقليم كردستان، والذي يعد بالنسبة الى أميركا والغرب نموذجاً اقتصادياً ملهماً في منطقة تعج بالصراعات وعدم الاستقرار، فمدينة إربيل تمثل ملتقى مهماً لكثير من الشركات العالمية الكبرى، ويصفها البعض بأنها «دبي العراق» أو على طريقها، من حيث الجاذبية السياحية والرخاء الاقتصادي. وقد لعبت حكومة كردستان على هذا الوتر من أجل طلب المساعدة العسكرية ودعم قوات «البيشمركة» التابعة لها من قبل واشنطن وغيرها من الدول الغربية، وهو ما حدث بالفعل. كذلك جاء تحرك أوباما ضد «داعش» من أجل حفظ ماء وجه إدارته أمام الانتقادات الداخلية التي تم توجيهها له، وكان آخرها من غريمته ووزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون قبل أسبوع، خاصة فى ظل انهيار الأوضاع في سورية وتخوف كثيرين داخل واشنطن من أن ينتهي العراق إلى المصير ذاته. وقد جاء التحرك الأميركي ضد «داعش» في نسق مغاير لما كانت تتبعه إدارة أوباما طيلة العامين الأخيرين، والذي كان يقوم على «فك الارتباط» الجزئي بصراعات المنطقة، وعدم التورط فيها، خاصة في ظل إخفاقات «الربيع العربي» وارتفاع وتيرة الصراع الطائفي، وهي الاستراتيجية التي تم انتقادها كثيراً من قبل المحللين والمراقبين وبعض أعضاء الكونغرس الأميركي والمسؤولين. بيد أن هذا التحرك، وبقدر نجاحه العسكري والاستراتيجي، كشف عن الازدواجية الأميركية المعهودة في التعاطي مع أزمات المنطقة، ليس فقط أخلاقياً، وإنما سياسياً أيضاً، فالتجاهل الأميركي لما يحدث في سورية ورفض واشنطن مراراً تسليح المعارضة السورية أو توجيه ضربات مماثلة للقوات النظامية، لا يمكن إغفالهما، وقد قارن كثيرون بين رد الفعل الأميركي السريع على جرائم «داعش» وبين عدم الفعل أو التحرك رداً على جرائم نظام بشار الأسد. وتصبح المقارنة أكثر وضوحاً وانكشافاً إذا ما تم استحضار الجرائم الإسرائيلية التي حدثت ضد الفلسطينيين في قطاع غزة طيلة الشهر الماضي، والتي لم تحصل ولو على إدانة من إدارة أوباما، هو ما يدحض أي دعاوى أو أطروحات أخلاقية أو إنسانية قد تتذرع بها إدارة أوباما وحلفائها الغربيين في التحرك ضد «داعش». استراتيجياً وسياسياً، فإن كثيراً من الأسئلة حول الحملة الأميركية على «داعش» لا تزال مطروحة، فإلى أي مدى، زمنياً وميدانياً، سوف تصل هذه الحملة؟ وهل يمكن أن تعيد أميركا إرسال جزء من قواتها الى العراق؟ وهل الهدف هو «التخلص من داعش» وهزيمته أم مجرد احتوائه؟ وهي أسئلة لا أعتقد أن ثمة إجابة واضحة عليها لدى إدارة أوباما، على الأقل حتى الآن، وهو ما يترك الباب مفتوحا على كل السيناريوات.