قال: من أنت؟ قلتُ: من سلالة أسلافيَ المتعبين بأوهامِهِمْ.. والذين تكسّرت الأغنياتُ على وَجعٍ بهمُ في شتاءٍ نسيتُ اختلاط دموعيَ فيه صغيراً برائحةٍ للحطب. الذين يُضيّع حاتمُهُم خبزَ أولادِهِمْ.. والقِرى كعبةً المغتربين الذين استووا حول قصعة أفقر أفقرهمْ.. حينما تنثني في مجالسهم حدباتُ الركب. الذين تنوءٰ بهم صَهَوَاتُ النساء.. فأجداثهنّ قبورٌ رَمَيْن بها كل أحلامهنّ اللاتي ذهبنَ بهنّ لملءِ القِرَب. وعُدْنَ وليس بهنّ احتمالٌ لذاك الذي يتولّد في رغباتِ الفحولةِ.. والتّعَبِ الذي يتدفّقُ فوق تَعَب. الذين تصيرُ السماءُ لهم وطناً والربيع ذَهَب. وتصيرُ جميع النساء اللاتيَ أرضعنهمْ أمهاتٍ لهم.. والصبايا المليحاتِ يُصْبِحْنَ أخواتٍ لهم.. حين يختطّ تحت أُنوف الرجال (الشّنَب) الرجال الذين يَمسُّهم الضّرُّ حين تجوع بُنيّاتهمُ في السنوات الكُرُب. الرجال الذين يفرّون من عجزهمْ بافتعال الغَضَب. *** أنا نسل من يحسبون قبيلتهم فوق كل القبائلِ.. حتى إذا ما استفاق النهار عن الغزوات يجيئون مثل جناح النسور التي كَسَرَتها الرياحُ غداة نواحِ بنات العرب. أنا ولدٌ للنخيل التي طوّقتها الجبال فصرنَ عرائسَ صبحٍ تداعبهنّ الأيادي الصغيراتُ والأرجلُ الحافياتُ لجمع الرّطَب. بدمي يتوحّد رملُ (النّفُودِ) فيغدو ارتحالي صلاة دراويشَ في خَلَوَات الظهيرةِ.. تغدو الفيافي البعيدةُ حاديةَ الرّكْبِ.. حين كانت مَطِيّةُ أحلامهم (هَيْجَنَاتٍ) وكانت مدامعهم من لَهَب. وبعينيّ تسكن (السامريّة) يوم كان يبوءُ بإثم الغناء الرجال وتهتزّ أشواقهمُ للطّرَب. يوم كانت بنات العشيرة يصدُقْنَ في وعدهنّ وكان الفوارس يؤتون أرواحهمْ كي تكون مهوراً لهنّ.. وكانت قصائدهم من سُحُب. أنا واحدٌ من عِيال الذين ينام (الخزامى) بأحداقهمْ.. وَتَشُبُّ سواعدُهم عند مفترق العمر.. قبل رحيل الغوايةِ.. واللغةِ المستكينةِ بالحجرِ الجاهليّ الغريبِ عن المدن المتخماتِ بحمّى الكَذِب. *** أنا هاهنا واقف في ضمير الرجال كأنيَ رمحُ حكاياتهمْ.. قبل أن تستقرّ حكاية أحفادهمْ حين مرّ بجانبهم زمهرير العقول فكانت وجوهُ المحبين غائبةً.. والضمائرُ منسوجةً كاللعب. واقفٌ واحتمالُ المسافةِ بيني وبين الذين يموتون في كل صبح مضى كالمسافة بيني وبين غَدِي.. والحفيدِ.. ورائحةِ تستثير سكون الحِقَب. واقفٌ أستجير سحائب عمريَ ألا تثير غبار السنين بعين ابن عمي الذي ليس يعرف معنى التغرّبِ في وطنٍ من قَصَب. *** واقفٌ تَتَمَلْمَلُ هذي القصيدةُ بيني وبين حنينيَ.. بيني وبين مساء الربابةِ.. والوقتِ.. والسهرِ المستبدِّ بنا كعيون الشوارع في وطن الغرباء.. وأتلوَ ما يتيسّرُ من صَلَوَات الأَدَب. فتخشعُ فيّ القصيدة: وَيَسْكُنُ في صَمْتي ضجيجٌ يلفّني/ وفوقيَ أسفارٌ من الأمس تعتلي/ يثور دمي نزفاً قديماً وفي فمي/ حجارةُ آبائي ورفضي معولي/ (ولي وطن آليت ألا أبيعه)/ فيوسِعُنِي جمراً ويرضى بمقتَلي (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى)/ إذا ضاقَ عن رَحْبِ الفضاءاتِ منزلي المدينة / نهاية أبريل ٢٠١٢ * شاعر سعودي.