كانت شبه الجزيرة العربية أرض العرب منذ كانوا ولذا فإن أي دارس لحياة العرب في الجاهلية لن تتشكل في ذهنه الصورة الكاملة عنهم مالم يربطها بتاريخ العرب المتأخرين بسبب تشابه ظروف الصحراء التي ما انفكت مستمرة على طبيعتها قروناً عديدة ولذا فإن الإلمام بثقافة الصحراء العربية مرتبط بدراسة الثقافة الشعبية للعرب قديماً وحديثاً ولا شك أن الأسواق وما يجري فيها جزء لا يتجزأ من هذه الثقافة العربية. وقد كانت العرب في الجاهلية والإسلام تقيم أسواقها في أنحاء الجزيرة العربية التي تجتمع فيها من كل مكان للبيع والشراء وعرض السلع وتبادلها وما يصاحب ذلك من نشاطات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وقد اشتهرت كل ناحية بسوق يقام في موعد معروف لكل سكان الجزيرة زماناً ومكاناً أشبه ما تكون بالمهرجانات أو المعارض الكبرى التي نشاهدها في هذا الزمان.. وقد ذكر أهل الأخبار أكبر هذه الأسواق وإلا فأسواق العرب أكثر من ذلك ففي شمال الجزيرة (سوق دومة الجندل) وهو أولها قياماً ويقام من أول يوم من شهر ربيع الأول إلى نصفه، وسوق (نطاة) بخيبر وتقوم يوم عاشوراء إلى آخر الشهر، وفي شرق الجزيرة (سوق هجر) وتعقد في شهر ربيع الآخر و(سوق المشقر) وتقام من أول جمادى الآخرة إلى آخر الشهر،(وسوقا صحار) وتقوم أول يوم من رجب، (وسوق دبا) وتقوم آخر يوم من رجب، وفي جنوب الجزيرة (سوق عدن) وتقام أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه، و(سوق صنعاء) تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره، و(سوق الشحر) وتقوم للنصف من شعبان، و(سوق حباشة) في تهامة وكانت تقام في شهر رجب، وأما في غرب الجزيرة فهناك سوق (مجنة) وتقوم في العشرين من ذي القعدة إلى هلال ذي الحجة، و(سوق ذي المجاز) وتقوم من أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية، وفي وسط الجزيرة يقام(سوق حجر) باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم ولكن يتفق المؤرخون على أن أشهر أسواق العرب بشكل عام هو (سوق عكاظ) وهي كما ذكر الدكتور جواد علي في كتابه (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب، فيها يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع، وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب، وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر، ولم تكن فيه عشور ولا خفارة كسائر الأسواق. ولعل شهرتها نتيجة مكانها وزمانها ومدتها فالناس يأتون إليها من كل فج في طريقهم إلى مكة المكرمة وهم محرمون بالحج وكانوا يعظّمون ان يأتوا شيئاً من المحارم أو يعتدون على بعضهم البعض في الاشهر الحرم، يضاف إلى ذلك أنهم تعارفوا على الحضور إلى هذه السوق ليتفاخروا في حين يحضر شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، بل إن من أراد أن يعمل عملاً تعرفه العرب أويستشهد بما فيه لم يعمله إلا في عكاظ. أما اليوم فعلى أرض السوق التي تعاكظ المتأخرون في تحديدها الدقيق الذي يريدونه كرأس الدبوس على الخريطة وهيهات هيهات! فيكفينا استلهام التاريخ لنحيي ما اندرس من تراث العرب، ونطرب على الأطلال لقول الأعشى: ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟ غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا مرّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ