إذا كان المنطق في الفكر يصوب الرؤية، وإذا كانت الرؤية السليمة تحقق النتائج السليمة، وكون أن المنطق ذاته يختلف في الجزئية عن الكلية وفي الصورة عن التركيبة، فهو إذن يستحق الاهتمام بالبحث والدراسة باعتباره الأرضية والأس الذي يبنى عليه الفكر في الرؤية. وكان ظهور أهمية بالمنطق والاهتمام به لدى المسلمين في العصر العباسي قد أظهر علماء الفلسفة والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك والطب وغيرها من العلوم التي صاركثير منها أسسا للعلوم الحديثة اليوم، وإذا كان القرن الرابع والخامس الهجريين قد شهدا ثورة فكرية تفاعل فيها العلم أو العقل مع الدين فإن وجود الإمام الغزالي وابن عطية وتلاميذ الإمام احمد بن حنبل ومن بعدهم ابن تيمية مع انزلاق بعض المفكرين العرب مثل ابن سيناء والفارابي وابن الهيثم والبيروني وابن رشد وغيرهم في الغوص كثيرا في العلوم الفلسفية والمنطقية والعلمية بما ظهر وكأنه ابتداع وخلق جديد غير مألوف، وكون أن القاعدة الغالبة لم تكن قادرة بتواضع وعيها وفكرها من أن تخرج من محيط الصندوق المحيط أو المتوارث ربما أركس الانطلاقة الناهضة واليقظة نحو تجديد الفهم على أسس منطقية أكثر قوة وصلابة. وحينما استعير عن المنطق بالنهضة واليقظة فما ذاك إلا لأهمية المنطق للعقل والفكر، ومن ثم الرؤية للأشياء بحكمة أوسع وأصوب، إننا نرى في راهن عصرنا رؤى وأفكارا لا تنسجم ومنطق العصر وفلسفته سواء كان ذلك في التقنين أو التشريع أو حتى في بعض الفتاوى العامة، ونستعين بالحذر والتوجس ودرء المخاطر والمفاسد بالارتداد للخلف والتمسك بالموروث دون أن نفطن لتبدل حال العصر ووعي الناس وتطور حاجاتهم، بل إن الحديث عن المنطق والفلسفة لازال يعد بكل أسف لدى البعض فسقا وزندقة، أي وكأن الزمن توقف بنا عند كتاب تهافت الفلاسفة، رغم إقرارنا واعترافنا لأولئك العلماء الموصومين بالفسق والزندقة الذين اضطر بعضهم لحرق كتبه رهبة وخشية بالريادة العلمية لعلوم هذا العصر بل ونعتز ونفتخر بهم، وإن بحثنا عن هذا اللبس الخفي المتعارض بين ما نستشعر أهميته وبين ما نخافه ونحذره فإننا لن نجد إلا غياب المنطق. إن غياب المنطق في الرؤية والفكر وعدم بحثه وحرثه باستمرار في مساحات واسعة من الاجتهاد المتحرر من قيود الرواسب والمألوف سيبقي الركود والتجمد في الفكر والرؤية للأشياء مهما حاولنا واجتهدنا في مسايرة المستجدات التي تفاجئنا بين حين وآخر، بل وستبقينا متلقين مستهلكين ليس في أدوات ومعطيات الحياة فقط بل وحتى في أخلاقنا وسلوكنا وفكرنا وأخشى أن أقول وحتى عقيدتنا، وليس أدل من ذلك ما نراه ونعايشه من تغير في جوهر قيمنا وأخطر منه في هويتنا وأحيانا في الصميم دون أن يكون لدينا الخيار الأفضل، بل إننا ننساق مرغمين لقبول ما استجد بعد أن ندرك عجز أداوتنا سواء كان بالموعظة أو النصيحة أو حتى الزجر والعقاب عن مواجهتها، وإذا كان الفكر هو صانع الثقافة الجماعية وحين يكون الفكر أو التفكير لا يهتم بالمنطقية الحيثية للحالة المتغيرة حسب ظروف الزمان والمكان في الرؤية لبعض الأمور بحجة المتعارف والمحسوم والمسلم به فإن التصرفات والسلوكيات بين الأفراد وفي الجماعات وفي المعاملات وبعض النظم قد تظهر في بعض الأحيان غير ذات منطق يتلاءم وطبيعة معطيات الحالة ذاتها، وهذا يؤدي للمراوحة أو التمحور داخل فهم منغلق عما هو خارجه، وحين يصبح هذا هو السائد والمعتاد في الرؤية العامة للفكر والفهم كيف إذن يمكن الرقي بالوعي نحو ما يحقق التحضر والتطور في السلوك والأخلاق. إن غياب فهم طبيعة الفحوى المنطقية المناسبة باعتبار أن المنطق ذاته ذوقالبين مختلفين ولكل منهما قوته ومضمونه المفيد فالنظرة الكلية تختلف عن النظرة الجزئية للأشياء، ومنذ زمن طويل والمناطقة والفلاسفة مختلفون حول الاستنباط والاستقراء إلى أن وصلنا التجربة والاستنتاج، لكن ذلك حصل في المسائل العلمية، بينما بقي المنطق الاجتماعي قابلا للبحث لما يختزنه من تباين في المؤثرات التاريخية والجغرافية والعقائد والأساطير الموروثة، ولتسهيل المعنى المقصود أقول: إن المنطق لدى البدوي قد يختلف عنه لدى المزارع أو الصانع بل وحتى داخل القالب الواحد الفئوي قد يختلف بين متمدن متعلم ومتمدن جاهل وبين متمدن غني ومتمدن فقير، فلكل منهم منطقه الذي يستند إليه، وحين نتحدث عن الدولة ككلية جامعة هنا يصبح السؤال مهما، أي منطق يفترض بنا الاعتماد عليه ؟ منطقية الأشياء تحكمها طبيعتها لاشك، وفي الدولة نحن بصدد توحيد أو خلق منطق جامع يأخذ المجموع نحو منطقية جامعة تحكم السلوك والفكر والنظم، ويبدو لي أن العدل والمساواة هو الخيار الأصوب، ولكن هل تم تطبيق ذلك فعلا؟ نعم فلعل الديمقراطية حققت ذلك ولكن أيضا هل يصح تطبيق ذلك على كل المجتمعات وهي مختلفة؟ الأرجح لا، لماذا ؟ أعتقد لحاجتها لتصويب منطقها أولا.