د.نوال العيد ها هو الجيش الإسرائيلي ينسحب بعد أن أسقط ما يزيد على 1819 شهيداً، وقرابة 9420 جريحاً، وخلف وراءه الهدم والذبح وأودية الدم، إلا أن الحرب انكشفت عن دروس وعبر للرائي بعين البصيرة لا البصر. انكشفت الحرب لتعلن أن الفوز فوز المبدأ، والنصر ارتفاع القيم، وتأمل عرض الله قصة أصحاب الأخدود، وما حصل لهم من الإبادة الجماعية حرقاً بسبب ثباتهم على دينهم ومبادئهم: «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، وفي نهاية المقطع بعد آية يشير الرب جلّ وعلا إلى انتصار المبدأ بقوله بعد أن ذكر ثواب الصامدين في الآخرة «ذلك الفوز الكبير»، وما أقرب الليلة من البارحة، وإلا فما تفسيرك لحشد إسرائيل لجيشها بخيله ورجله الذي يعد الخامس في القوة على مستوى العالم برياً والرابع جوياً، أمام منظمة محاصرة في رقعة صغيرة لا تساوي نصف مدينة عربية، ولا تشكل سوى نسبة 1,3 في المئة من مساحة فلسطين، ولا تملك واحداً في المئة من سلاح عدوها، ولكن الله يقول: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». انتصر أهل القيم والمبادئ وإن اختلفت القوى المادية، وتباينت الذخيرة العسكرية، وما تدني سقف الأهداف الصهيونية وتبدلها خلال المعركة إلا دليل ذلك، فكان هدفها إفشال حكومة الوفاق الوطني، وإسكات الصواريخ بتدمير منصتها، وتحقيق معادلة «هدوء مقابل هدوء»، ثم قالت بعد أن بدأت الحرب البرية إن الهدف تدمير الأنفاق، وأخيراً قال نتنياهو إن الهدف إعادة الهدوء والأمن الطويل، ثم أعلن الجيش الصهيوني انسحابه مجرجراً الخذلان والخيبة والخزي والعار، «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا». انكشفت الحرب لتظهر حقيقة اليهود للعالم أجمع، وكان من أبرز نتائجها ما تكبدته الدولة العبرية من سمعة تليق بحاضرها الذي لا ينفصل عن ماضيها، فهم قتلة الأنبياء، وأهل القلوب القاسية بنص كتاب الله: «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا»، انكشفت عن قتلهم الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير المدارس والمساجد والمستشفيات، وهو إعلان للفشل والهزيمة. انكشفت الحرب لتسقط أصنام الغرب التي طالما رفعوها شعارات تداعت في حرب غزة، الحرية وحقوق الإنسان، يدافعون عن حيوان يقتل، وأيديهم ملطخة بدماء آلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ»، انكشفت لتعلن هزيمة الأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان، فهل سيتغنون بعدُ بترديد اتفاقاتها وهم أول من ينتهكها. انكشفت الحرب عن المتعاطفين مع اليهود، والمدافعين عنهم، وإن حلفوا أغلظ الأيمان أنهم ليسوا منهم، من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وتعرفهم في لحن القول بولائهم لإخوانهم من أهل الكتاب، يبررون أخطاء اليهود ويحملون غيرهم الجرم، «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، وقوله: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ». انكشفت الحرب عن خيرية هذه الأمة، وأنها كالغيث لا يعرف أوله خير أم آخره، انعكس ذلك في تعاطف المسلمين مع قضيتهم وإخوانهم عبر وسائل التواصل الحديث، والتواصي بالدعاء والدعم المعنوي، لتستشعر قول الله تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، وأن جسد هذه الأمة قد يمرض لكنه لا يموت. انكشفت الحرب عن دروس وعبر تحيي فينا قراءة أوائل سورة الإسراء، ومن ثم قراءة التاريخ لاستلهام العبر، «وتلك الأيام نداولها بين الناس». .. الحياة