إن سيكولوجية الطفل تبدأ فى التعبير عن نفسه منذ ميلاده فهو يبدأ برغبات غريزية معينة لا بد له من إبلاغ العالم الخارجي بها، وهو عالم تمثله الأم في البداية تمثيلاً يكاد يكون تاما. ومن ثم فإن أولى صيحاته وحركاته تكون لغة بدائية يحاول الطفل بواسطتها الاتصال بالأخرين. "فالأطفال شأن المتوحشين وشأن الحيوانات، يخبرون الحياة خبرة مباشرة، وليس عن مسافة عقلية؛ ولا بد لهم فى الوقت المناسب من فقدان هذه البدائية".. وكما ذكر هلبرتريد في كتابه التربية عن طريق الفن: "يبدأ الطفل بالالتحام بالعالم الخارجي شيئاً فشيئاً، يتطور مرحليا بما يسمى بالبدائية والتلقائية فى التعبير. وهو التحام يصعب عليه للغاية، وخصوصاً بعد مرحلة الفطام أو انفصاله عن عالم الأم التى تمثل العالم بالنسبة له فى بادىء الأمر، وقد يكون أول هذا التعبير هو الرسم مثلاً".. فتقول الدكتوره "مو تنسورى": "إن الرسم ينبغى أن يكون نشاطاً تلقائياً، أي تعبيراً عن ذات الطفل نفسها وأفكار الطفل نفسها". وهي طبيعة النشاط الذى يواصله الأطفال عندما يقع فى أيديهم قلم رصاص أو فرشاة ويقبلون على الرسم. ولا خفاء فى أنهم بقدر ما يتصرف هؤلاء الأطفال بمحض إرادتهم الحرة يكون نشاطهم تلقائيا، إذ نجد أن هناك حرية مطلقة وتلقائية دون قيود؛ ينشدها الطفل دون أن يسعى إليها، إنما تأتى إليه طواعية نابعة من وجدانه ودواخله الانفعالية، كل هذه الطواعيه تأتى لعبا. فهو يلعب.. واللعب هو أسمى الوجدانيات فى حرية الانطلاق الصادق. ثم يقول" هلبرتيد" في كتابه التربية من أجل الفن: "إن اللعب أغلى نوع من أنواع التعبير عن التطور البشرى لدى الطفل؛ وذلك وحده هو التعبير الحر عما يوجد فى نفس الطفل، فهو أنقى ما ينتجه هذا الطفل من ثمرات وأشدها، كما إنه فى الوقت نفسه يعد طرازا ونسخة من الحياة الإنسانية فى كل مراحلها وجميع علاقاتها". والطفل فى بداية مراحله البدائية يحقق ما يسمى بالسعادة التى ترافق هذه العملية التلقائية الحرة. فالطفل الصغير يبتهج باستطاعته تحضير صور بالتخيل، فثم عرض عسكري أو سيرك أو رحلة بالقطار أو حتى مشهد منزلي تافه. وكل منها يلاحقه أياما أو أسابيع كاملة، فتزوده بمواد تثير اهتماماً عظيماً لديه أثناء مناشط لعبه، وكثيرا ما يصعب إقناعه بضرورة عدم تصديق هذه الصورة القوية؛ فهو يتفاعل معها بنفس الجدية التى يتفاعل بها مع الموقف الحقيقى؛ فنرى الرعب يملأ نقسه من الصورة التى كونها الحيوان الضار، كما أنه يصحب ساعات متتالية وبكل رضا وسعادة رفيق اللعب الخيالى، ويصر جازما بصدق وجود أشد رؤاه؛ إمعانا فى الخيال. "إنها بلغة القوة عند بعض صغار الأطفال، بيد أنهم يقضون سنوات عديدة، يجدون فيها صعوبة فى التمييز بين العالم الذاتى والعالم الموضوعي". إن الطفل فى محاولاته لتحريك القلم والفرشاة، يصبو إلى استهجان الأشكال التى تتحرك فى مخيلته؛ ولكنه هنا لا يصل إلى كنه الصورة فلا يستطيع أن يجسدها وقد تبدو له مجسدة؛ فهو يكمل الأبعاد الخطية فى مخيلته النشطة كما هو الحال عند الرجل البدائي. "سيتوقع أي واحد منا أن الرجل البدائي شأنه شأن الطفل؛ سيحاول قبل كل شيء تمثيل الشيىء كما يراه فى وضعه الطبيعى والمتماثل، منذ ذلك الحين ونحن نرى الأشياء مثل المدلول والدرجة اللونية والضوء والظل، والتمثيل الفنى بصورة أكثر مباشرة وبداهة، ولذلك يبدو الأمر غريبا وعندما نلاحظ أن الطفل ورجل الكهف شرعا بواسطة التجريد، انطلاقا من الواقع ونفذا مخطوطات عريضة توضيحية لشيء؛ إنهما ينفذان تصويراً تمثيليا وليس نسخه طبق الأصل". فالأطفال الذين أوتوا القدرة على أشد التصورات خصوبة، يبدأون فى أن يكونوا ذاتيين صرفا، وأنهم يكتسبون نظرة موضوعية إلى العالم بغاية البطء والمشقة. "ربما حدث أن بعض الأفراد ينجحون فى القضاء التام على إدراكاتهم ووجداناتهم الذاتية؛ على أن الكائن البشرى المتكامل يتكامل اجتماعيا وينتقل بين الحالات العقلية أو لحظات الانتباه الموضوعية والذاتية، وبقدر ما يسيطر هذا الاتجاه أو ذاك على أي فرد بعينه يمكن وصف ذلك الفرد من الطراز الموضوعي أو الذاتى".. يقول هلبرتريد: "إن الطفل كالرجل البدائى كلاهما يحركهما طاقة فطرية خارقة يجب الانتباه إليها كما تحمله خطوطهم من قيمة فنية عالية". "ويجد المرء نفسه أن نسبة مئوية خارقة الارتفاع -هى فى الواقع غالبية الأطفال- تحرز نتائج فى الرسم والتصوير والفنون التشكيلية التى يعترف الكل بأن وراءها قيمة فنية عالية". أتذكر وأنا عضو لجنة تحكيم في فنون القارات الخمس للطفل، أن اللوحة الحائزة على المركز الأول كان لوحة رسمتها طفلة؛ لطفلة أخرى بشكل عشوائي بقلم الرصاص وبشكل بدائي، ثم لونت وردة حمراء برأس الطفلة مع الاعمتاد الكلي على قلم الرصاص الحر الجريء الذي يجري بعفوية في كل اتجاة! وبعد المسابقة اشترت ألمانيا نسخة للوحة البريئة بمبغ باهض الثمن، لتطبعها على أقمشة ستائر غرف الأطفال، ثم طبعتها بالفعل وشاهدت تلك الأقمشة بعد طباعتها! حقيقة.. كان عالما رائعا، وشيئا مذهلا للغاية!