هناك مدن ليست على طريقك. الحقيقة أنها ليست على طريق أحد. بالكاد هي على الخريطة الوطنية للبلد. ولذا، كان البلد إيطاليا، وعنده روما، وعنده فلورنسا، وعنده البندقية، وعنده.. آه، عنده ريف توسكانا وساحل أمالفي، فهل يمكن أن يتذكر وضع تريستا على الخريطة؟ بالكاد. وخصوصًا بداعي الخجل، وخوفًا من أن يُتَّهم بالتمييز، خوفًا أن يُقال إنه في داخله لم يتعلم أن يحبها بعد؛ لأنها مدينة أقامها آل هابسبورغ أيام تلك الإمبراطورية الفائقة الفخامة، حين كان الجمال فرضًا، والجماليات قاعدة. سوف تعرفها عندما تصل إلى «الميناء الكبير»، عندما تشاهد حدائقها المطرزة، عندما تلاحظ أن الخضرة لون طاغٍ. كأنها تقول لك، هذه المدينة الهجين التي لم تعد نمساوية، ولا أصبحت إيطالية تمامًا بعد، تذكَّر أيها العابر من هنا إلى مدينة أخرى، إنني من صنع تيريزا ابنة الإمبراطور، أنا مدينتها المدللة. وصل مجد تيريزا ذات مرحلة إلى الخليج. الليرة الذهبية هناك كان اسمها ماريا تيريزا. وكانت عنوان الكد والملح والغوص عند صيّادي اللؤلؤ الذين عرفوا البحر من قاعه لا من سطحه. لم تكن لديهم أنابيب أكسجين مثل مُترفي هذه الأيام، بل كان عليهم أن يقطعوا أنفاسهم ثلاث أو أربع دقائق وهم يطاردون المحار المرصع، فإذا وقعوا على لؤلؤة كبرى، سموها موزة. فهل عرفت لماذا اسم موزة غير شائع إلا في الخليج؟ هل تنبهت لماذا يطلق على المبنى اسم لؤلؤة، وعلى الابنة البكر اسم لولوه؟ كان ذلك موسم العز والعذاب، والرزق يأتي من البحر. تريستا جوهرة البحر الأدرياتيكي ولؤلؤة ساحله. وصلت إليها على الباخرة من قبرص ومعي ابني وابنتي وزوجتي وسيارتنا. كان التنقل بالسيارة في أوروبا لأربعة أشخاص اقتصاديًا. وكان يمنحنا الوقت لأن نرى المدن في هدوء، ونعلِّم الأولاد مبكرًا بعض التاريخ الذي قد يهملونه في شبابهم، عندما يبدو كل شيء من الماضي بلا أهمية. تريستا كانت نموذجًا للتاريخ الأوروبي في مجد الإمبراطوريات وسقوطها وتفكّكِها. في تشرد الشعوب وحلول الموجات الجديدة منها. لكن كارل ماركس لم يرَ فيها سوى مرفأ تجاري بلا روح، يعج بالمضاربين من كل الأجناس «مدينة ميزتها، مثل أميركا، بلا أي تاريخ». ماذا كان ماركس يعني بالتاريخ؟ عندما هزمت الإمبراطورية النمساوية عام 1866 في البندقية، جعلت قيادة أسطولها البحري في تريستا. وظلت المدينة بوابة بحرية رئيسة للإمبراطورية الهنغارية - النمساوية التي كانت تضم بدورها، معظم لغات أوروبا وأعراقها. تهاوت الإمبراطورية المزدوجة في نهاية الحرب العالمية الأولى. وعام 1919 فقدت تريستا هويتها القائمة منذ القرن الرابع عشر لتبدأ حياة جديدة في ظل الملكية الإيطالية. أمضينا يومًا واحدًا في هذه المدينة وأكملنا الطريق إلى فلورنسا، حيث التاريخ، من دون شهادة ماركس، أكثر كثافة. إلى اللقاء..