أي مكان من الأرض تقع فيه حادثه تاريخيّه مهمه أو يكون له في حياة النّاس أثر ملموس ينال من هذا أو ذاك شهرة واسعة في ذاكرة التاريخ، حتى لو تضاءلت أهميته عبر القرون، والواقع أن أسماء بعض المواضع يصيبها -مع تقدم الزمن وتعاقب الناس في المكان من التغيير والتشابه- ما يصيب بعض أسماء الأنساب: إما بالخلط بينها، بحيث ينسب ما لهذا من الأخبار للآخر بجامع الاتفاق بالاسم، وإما بتغيّر أسمائها القديمه إلى أسماء حديثه، فيقرأ كل ما قيل عن هذا الموضع وكأنه لغيره، لكونه غير معروف باسمه القديم، إلى أن يأتي أحد من أهل العلم فيقدم من النصوص والقرائن الدالة على أن هذا الموضع هو نفسه الذي كان يحمل ذلك الاسم القديم، رأينا في معاجم الأمكنه من ذلك الشيء الكثير، فما نصيب وادينا هذا مما تقدمت الإشارة إليه في التاريخ والآثار؟ للنظر: والرقم: وادٍ فحل يخترق جبل العلم في ديار بني رشيد، ويخرج منه متجهاً صوب الشمال الشرقي، حتى يفيض في وادي الرّمه مقابل قرية (العجاجة) من الغرب، ولا يزال معروفاً، غير أن الحرف الأخير منه قد استبدل (باء) فأصبح ينطق (الرقب)، وفيه كان قد جرى يوم من أيام العرب في الجاهليّة، لغطفان على بني عامر، وفي هذا اليوم فرّ عامر بن الطفيل عن أخيه (الحكم)، ما دفعه لخنق نفسه، وفي ذلك تمثل عروة بن الورد متعجباً وقال: عَجبتُ إذ يخنِقُون نُفُوسُهم ومقَتلُهُم تحت الوغا كان أعذرا و نقل ياقوت عن نصر أن السهام الرقميّة كانت تصنع في وادي الرقم وإليه تنسب. وعن أهل الرقب المعاصرين (الرقم قديماً) قال الشيخ حمد الجاسر في كتابه «معجم شمال المملكة: 589» (و الرقم الآن قرية لبني رشيد الذين أكثرهم من غطفان)، ثم ذكر بعض الوقائع الأخيرة التي وقعت في هذا الوادي داخل جبل العلم وفي القرن الثالث الهجري كان الرقم منزلاً من منازل الطريق من (فيد) إلى (المدينة المنورة) وقرية عامرة بالسكان، تعج بالنشاط التجاري والزراعي ومنافع الحياة، ذكر ذلك صاحب كتاب: «المناسك: 518 - 519» وهو يعدد المواضع التي يمرّ بها الطريق في وادي الرقم (الرقب)، ما هذا نصه:.. ومن حساء بطن الرّمه إلى الرقم أربعة وثلاثون ميلاً. ومن أسود العُشريات على اثني عشر ميلاً من حساء وبها البريد، وهو ظِرب أسود على الطريق، وقباب خربه، وبئر عتيقة، ماؤها ملح. وبعده بثمانية أميال على ظهر الطريق بئر عذبة الماء، عند شجرة خصبة الموضع عن يمين الطريق. وبعدها بأربعة أميال عند البريد ماء وإليه ينسب، وهو محصور، وفيه بناء وآبار عمق كل بئر عشر قامات، وأبيات أعراب من بني مرّة بين جبلين يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس. ومن قصة الرقم إلى الخَرِب وسي، الخرب موضع فيه بئر كبيرة غليظة الماء في بطن الوادي على ظهر الطريق. وبالرقم قصر وسوق ومنازل ونخل كثير وآبار كثيرة الماء عذبة، ومن الرقم إلى السعد أربعة وعشرون ميلاً. والناصفة على ميلين من الرقم، وهو وادي سلم وطلح)، انتهى ما يعنينا مما في كتاب المناسك من المواضع في وادي الرقب (الرقم)، ومما ينبغي ملاحظته وتجدر الإشارة إليه هو أن في بعض الجمل نقصاً واضحاً، وبعض أسماء المواضع مهمل أي بدون نقط، ولذلك كان سبيلنا في الاهتداء إلى معرفة بعض المواضع المهملة من النقط أو الذي يقع في جملة غير مكتملة المعنى هو الاستئناس بالوصف وتحديد المسافة بين كل موضع وآخر يليه. ولتحري الدقة في تطبيق ما ورد له ذكر من المواضع في وادي الرقب بالمشاهدة فقد أبديت رغبتي للشيخ ناصر بن عياد بن رميح بمرافقتنا لهذا الغرض، فهو أعلم من عرفت من أهل هذه الجهة في معرفة الديار، فما كان منه إلّا الموافقه، كما عهدته. كان صاحب كتاب «المناسك» قد ذكر أن الطريق يمرُّ قبل وصوله حساء وادي الرمّة بهضبة فيها شامة بيضاء عن يمين الطريق، وأقول: (هذه الهضبة معروفة وتدعى «الغرّاء» وأسمها من صفتها، وهي محتجبة عمن هو في وادي الرمّة بسلسلة جبيلات سود منقادة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي شرقاً من مدينة «السليمي» وتسمّى «أبا الغبطان» ومن الغراء كانت بداية رحلتنا متتبعين كل ما ذكر من المواضع بالمشاهدة على أرض الواقع، بدءاً من حساء بطن الرمّة، حتى خروج الطريق من وادي الرقب). دراسة النص وبعض عباراته أولاً: فالمسافر إذا اجتاز «أبا الغبطان» مغرّباً انكشفت أمامه قرية «العجاجة» على شاطئ وادي الرمّة، وكان لنا فيها وقفة تأمّل، ومن هناك كان يلوح أمامنا في الأفق البعيد جبل أسود مطل على وادي الرقب من الجنوب من حيث هو، وبسؤالنا رجلاً من أهل القرية عن اسم ذلك الجبل قال: «أسمر العِشَار» ومن الوصف وقياس المسافة تأكد أن أسود العُشريات لا يزال معروفاً، وإنه هو أسمر العشار، وإن ما تغير من لفظ اسمه القديم لا يغيّر من المعنى شيئاً. وبهذا يتضح أن قرية العجاجة قد ُأنشئت في الموضع الذي كان يعرف بحساء بطن الرمّة أو بالقرب منه. ثانياً: ورد في النص بعد أسود العُشريات (أسمر العشار حالياً) بثمانية أميال بئر عذبة الماء، عند شجرة خصبة الموضوع عن يمين الطريق. وأقول: (ثمة بئر قديمة تعرف بالخزيميَّة، نسبة لابن خزيم أحد شيوخ بني رشيد التاريخيين، تقع شمال مجرى الوادي قريبة منه، والوصف والمسافة في هذا النص كلاهما ينطبقان على موقع بئر الخزيمية، وقد أصبح ذلك المكان اليوم قرية تدعى «بدع الرقب» وفيها الكثير من الخدمات الحكومية). ثالثاً: ورد في النص بعد مكان البئر (موضع بدع الرقب): (و بعدها بأربعة أميال عند البريد ماء وإليه ينسب، وهو محصور، وفيه بناء وآبار عمق كل بئر عشر قامات، وأبيات أعراب من بني مرّة بين جبلين، يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس). ومما تجب ملاحظته في هذا النص هو: 1- إن اسم الموضع الذي يبعد عما قبله بأربعة أميال، وفيه بناء وآبار -مبتور، ولكن تحديده على هذا الوجه لا يترك مجالاً للشك بأن ذلك المكان هو موضع مزارع «القسمة» مع امتدادها إلى «أم أرطى»، وهذا الموضع هو مفيض سيل وادي الرقب وروافده عند خروجه من جبل العلم متسعاً في الأرض بعد أن كان محصوراً بين الجبال. 2- عدّ المتقدمون جبل العلم من جبال بني الصارد من بني مرة من غطفان، فهم سكان جبل العلم القدماء: (معجم البلدان: 4/147). 3- ذكر أن الجبلين اللذين بينهما بيوت لبني مرّة يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس. وأقول: (لا يزال الجبل الأيسر معروفاً يقال له أمُّ رأس و«أمُّ» بمعنى «ذات» وقد استعاضوا بها في كل كلمة عن «ذات» و«ذو» في كلامهم العامي. أمّا الجبل الأيمن فالحرف الأخير من اسمه مهمل من دون نقط، وغير متقن الرسم، مما يدل على أنه غير واضح في أصل المخطوطة، ولكن الجبل الذي يقابل أمُّ رأس عن أيمن الطريق يسمّى «الجراح»، وكل جانب منه له اسم، ومن أسمائه «أبو سواسي» و«النقب» و«الخُوَير»، ويبدو ليّ أن أصل اسم الجبل الأيمن هو «الخُوَير» وأن «الحديد» هو تصحيف للخوير، ثم مع تقادم الزمن تقلّص ليعني جزءاً منه، وحل مكانه اسم الجراح). رابعاً: جاء في النص: (و من قصة الرقم إلى الخرب وسي، الخرب موضع فيه بئر كبيرة غليظة الماء، في بطن الوادي على ظهر الطريق). وفي هذا النص على قصره من النقص في السياق، والأسماء المهملة من النقط والتصحيف ما يدعو إلى إيضاح ما ينطق به حال الواقع على الأرض، وأقول: (يظهر أن المقصود من «قصة الرقم» بدون نقط هو: «فيضة الرقم»، إما موضع «الخرب وسي» كما في النص فقد نوّه الشيخ حمد الجاسر في هوامش تحقيقه كتاب: «المناسك» أن الاسم ورد في أصل المخطوطة هكذا «الحرب وشي» ولكنه -على ما يبدو- آثر كتابة: «الخرب» وفقاً لما في معجم البلدان: (الخرب: موضع بين فيد وجبل السعد على طريق يسلك المدينة). والواقع أن هناك جبالاً على الجانب الأيمن من الطريق يقال لها «الخُرُش» غير بعيدة عن الموضع الذي قبل هذا، وعندها بئر كانت غزيرة الماء، ومتوغلة في القدم تدعى «الرَّنيِنَه»، ولا استبعد أن «الخرب وسي، أو الحرب وشي» هو الخُرُش). خامساً: يتكلم المؤلف في هذا المقطع من النص عن منزل الرقم القديم ويقول: (و بالرقم قصر وسوق ومنازل ونخل كثير وآبار كثيرة الماء عذبة، ومن الرقم إلى السعد أربعة وعشرون ميلاً). وهذا المكان من وادي الرقم (الرقب) كان لقرية تحمل اسم المكان (الرقم) وكانت في القرن الثالث من الهجرة منزلاً من منازل الطريق بين (فيد) و(المدينة المنورة)، وقد شهدت في تلك الحقبة من الزمن نقلة نوعية من تطور الحضارة، إذ كان سكانها يمارسون الاشتغال في التجارة والزراعة والصناعة والبناء وإقامة السدود، ما نهض بمستواهم الحضاري وساعد على تنوع مصادرهم الاقتصادية في ذلك الحين. ياقوت والجاسر والرقب تلك القرية الغابرة تعرف اليوم باسم «العماير»، وهي مجموعة آثار من المباني المتهدّمة، متناثرة فوق كل مرتفع من الأرض عن مجرى الوادي، وعلى جانبيه، وبعض الآبار المطوية بالحجارة، ومقبرة كبيرة، وبقايا من السد الذي كان مشيّداً في أعلى القرية، وكل شيء من ذلك يلفت انتباه مشاهده إلى أهمية المحافظة على ما بقى من هذه الآثار، حتى لا تسوء بها الحال على يد من لا يدرك قيمتها التاريخية إلى أسوأ مما تعرضت له من قبل. لا شك في أن الآثار توضح جوانب كثيرة من حياة أهلها القدامى، في مختلف العلوم الإنسانية اجتماعية كانت أم تاريخية، ولهذا فهي أولى مما تشدّ إليه رحال علماء الآثار والمؤرخين سواء بسواء، لمعرفة الشيء الكثير عن نمط حياة أقوام ذهبوا بالانقراض، ولم يبق لنا من أخبارهم سوى آثارهم في الأرض. إنّ ما بقي من آثار هذه القرية القديمة سيفتح نافذة من الاهتمام بها ويعطيها مزيداً من الاعتبار لدى علماء الآثار والمؤرخين، ليس هذا فحسب، بل إن موقع هذه القرية كجزء من وادي الرقب الجميل الذي يثري جبال العلم، مع روافده من الأودية الكثيرة التي تأتي إليه من هذه الجبال - يعدُّ من أجمل الأماكن موضعاً في هذا الوادي، وأكثرها إغراء كمنتجع سياحي جميل. سادساً: وفي آخر النص يقول: (و الناصفة على ميلين من الرقم، وهو وادي سلم وطلح). وقد علّق الشيخ حمد الجاسر على هذا النص وقال (... إما الناصفة القريبة من الرقم فهناك شعيب في غرب الرقم خارج عن جبل العلم بعد إجتيازه يدعى الناصفة، وهو غير بعيد عن موقع الرقم القديم (العمِيرَة): (معجم شمال المملكة: 3/1303». وأقول: (الناصفة من الأسماء التي تطلق على مواضع من الجبال، فالمسافة التي حددها المؤلف لا تتجاوز خمسة أكيال، وكل شيء من هذا التحديد ينطبق على مدخل وادي الرقم (الرقب) في جبل العلم من الغرب، شاقاً طريقه من هناك بين هضاب حمر، ولعله ما كان يسمى الناصفة قديماً). وتحسن الإشارة إلى أن وادي الرقم (الرقب) الذي كان في القديم حصناً منيعاً لأهله قد أصبح بفضل الله، ثم في هذا العهد الزاهر ذات قرى مفعمة بالحياة، هي: بدع الرقب، القسمة، أم أرطى، الحوارة، النميرة، النمارة، فيضة المسعار، المرموثة، مع ربطها بطريق مزفلت، ومدها بالخدمات الحكومية، من مرافق تعليمية وصحية وكهرباء وغيرها، ولا أبالغ إذا قلت: لو أقيم في أسفل هذا الوادي سد لصار أكبر خزاناً للمياه في المنطقة، وأجدى الحلول الممكنة لحل نقص المياه فيها في المستقبل.