ليست موجة مشاعر وطنية أو حباً مستجداً لجيشهم الوطني، ما أصاب اللبنانيين هذا الاسبوع. هذه الموجة نجمت عن وضع هذياني سريري، ذاك أن اللبناني الذي لا يجمعه شيء في هذه الأيام بأي لبناني آخر، تجمعه به حمى، من عوارضها حال إنكار يقفز المريض حين تصيبه من حال المرض إلى حال الاكتمال. الاكتمال الذي يُقارب، في الشكل، الفاشية من دون أن يبلغها. فاشية فارغة، من دون ماضٍ ولا مقدمات، فتظهر كاريكاتورية، وتختار ممثلين عنها أقرب إلى المهرجين منهم إلى الشخصيات لطالما جادت الفاشية بأمثالها على البشرية. يُنكر اللبنانيون على أنفسهم أنهم يشهدون الفصول الأخيرة من تراجيديا قيام لبنان وزواله. يستعيضون عن هذه الحقيقة القاتلة بالمبالغة في حبهم لمريضهم، وحين يكون الوداع مشحوناً بحالِ من النكران يُصبح الحب عرضة لأوهام الصمود، وطرداً للواقع ولمجرياته. فلبنان وإن كان حتى الآن الكيان الأقل عرضة للتفكك في الهلال المشرقي الذي يضم إليه العراق وسورية، فإنه الكيان الأحدث والأضعف والأكثر هشاشة، وروايته عن نفسه لم يُتح لها أن تكتمل، فيما تملك كل من بغداد ودمشق تاريخاً هائلاً من الأوهام التي تُسعفهما على الصمود. لهذا بدت «الهبّة الوطنية اللبنانية» الأخيرة كوميدية، وان لم تخلُ من أبعاد مأسوية. فجأة صار الجيش قوة خرافية. وها هم المسيحيون يريدون أن يثأروا لإخوانهم في الموصل عبر الانتصار على «داعش» في لبنان، فيما تحول الشيعة من حراس للمقامات إلى حراس للأرزة، وأصاب السنّة إحباط عميق نتيجة إقدام إخوان لهم من خارج الحدود على اختراق السيادة اللبنانية وخطف جنود وعناصر شرطة في عرسال. الحقيقة في هذه الفوضى الشعورية لا قيمة لها. على محطات التلفزة أن تتوجه الى عرسال لتدعم الجيش لا لتقول الحقيقة. على السياسيين أن يُصرحوا خلافاً لقناعاتهم، وعلى اللبنانيين أن يكرهوا اللاجئين السوريين. ثلاثة عناصر سلبية هي مركّب «الهبّة الوطنية اللبنانية» المستجدة. سقطت «داعش» من السماء على رؤوسنا في لبنان. هكذا، بلا مقدمات ولا توقعات، وبينما كنا ننتخب رئيسنا على نحو سلس وهادئ، وبينما كانت الطائفة السنية في كانتونها الشمالي تودع جهاديّها الأخير، والطائفة الشيعية تزيل آخر دشمة على الحدود مع سورية، أطلت «داعش» لتنتهك سيادتنا الوطنية! من راقب ما حصل على الحدود خلال السنتين الأخيرتين يكتشف أن اللبنانيين، بكل مركّباتهم، كانوا يرسلون الدعوات تلو الدعوات إلى «داعش». في عرسال تحديداً، البلدة اللبنانية التي تُشكل امتداداً جغرافياً واجتماعياً وطائفياً للقلمون السوري، جرت الفصول الرئيسة من حكاية إلغاء الحدود. دخل «حزب الله» الى بلدتي القصير ويبرود، أكبر بلدتين في القلمون، وبدل أن ينزح سكانهما نحو دمشق التي يقيم فيها نظام لا مودة بينه وبينهم، نزحوا إلى بلدة عرسال التي تمتّ إليهم بقرابة مذهبية ودموية. إذاً المهمة اللبنانية كانت القضاء على التكفيريين في المناطق السورية المحاذية للحدود اللبنانية، استباقاً لوصولهم إلى لبنان، لكنها أدت الى وصول عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى عرسال، استخدمهم التكفيريون ذريعة للتواصل ولإلغاء الحدود. المسؤولية اللبنانية حاسمة على هذا الصعيد. «شيعة» ذهبوا للقتال في سورية وأحدثوا نزوحاً وألغوا حدوداً، و «سنّة» استقبلوا تكفيريين وتواصلوا معهم، و «مسيحيون» انقسموا بين مؤيد لقتال «حزب الله» في سورية وصامت عما يصيب الطائفة السنية الحليفة من تحولات. وفجأة أراد مَنْ هذه حالُه أن يخترع عدواً خارجياً يحيل عليه فشل المهمات الثلاث. «حزب الله» لم ينتصر في سورية ومهمته هناك مستحيلة، و «داعش» لن يُنجد السنّة، لا بل سيقتلهم، وصمت المسيحيين وانقسامهم جرا عليهم مزيداً من الوهن والضعف، وألغيا حساسية كانت جوهرية في الوعي اللبناني، ولا قِبْل للسنّة وللشيعة بها، وهي أن لبنان يجب أن لا يخرج للقتال خارج حدوده. فالمسيحيون، «جوهر الكيان»، كان من المفترض أن يُدركوا أن أي التحام للأطراف التي ضُمت إلى الكيان في حرب خارج الحدود سيطرح احتمالات التفكك، ذاك أن اللحمة اللبنانية مصطنعة، وهذا ليس عيبها كما ترطن العروبة في أهازيجها. فالتاريخ يُصنع أيضاً، وخبرات العيش والتقدم والازدهار ليست فطرة. وقعت الواقعة، وذهب لبنانيو المحافظات الملحقة بالكيان (الجنوب والشمال والبقاع) للقتال في سورية، أي في امتدادهم الاجتماعي ما قبل اللبناني. حصل ذلك في ظل عقم مسيحي أفضى إلى غياب شخصية مسيحية يُمكنها أن تُقدّر أخطار ذلك. فميشال عون كان يبحث عن مستقبل صهره، وسمير جعجع كان منشغلاً ببناء مجسّم للزنزانة التي سُجن فيها. في هذه اللحظة دخل تنظيم «داعش» إلى عرسال! واستيقظت اللبنانية من سباتها، ولكن بعدما فقدت مقوماتها الفعلية. علينا أن نُدين دخول فصيل سوري إلى لبنان، ونحن نقاتل في سورية. وعلينا أيضاً أن نُميز بين «داعش» والفصائل السورية المقاتلة ونحن نعرف أن الأخيرة دخلت مع «داعش» وتحت راياته إلى عرسال. فكان الحل أن نخترع عدواً نُجمع عليه، وإذا به اللاجئون السوريون. فخصومة الشيعة لهم امتداد لخصومة نظام الأسد، والمسيحيون يملكون ذخيرة خصومة تاريخية لهم ولا يعوزهم «داعش» ليعززوها، أما السنّة الذين يُفترض أنهم أصعب حلقة في مسلسل الكراهية اللبناني (بسبب القرابة الطائفية) فأفضت سنوات النزوح إلى مستجدات يمكن توظيفها لإنتاج الكراهية. المنافسة على العمل وعلى السكن، والمساعدات للاجئين فيما انعدامها لأشباههم اللبنانيين، ثم استهداف «داعش» المواطنين السنّة في عرسال. لبنان «المصطنع» استعيض عنه بلبنان الحمى والوهم والهذيان، فلبست مذيعات التلفزيون ثياب الجيش، وراح شيعة لبنانيون على «فايسبوك» يُطالبون السنّة بموقف من «داعش»، والأخيرون يستغيثون متخبطين بين حزب اللهـ «هم» وداعشـ «نا». وفي هذا الوقت راح المسيحيون يقيمون كل مساء في ساحة ساسين في الأشرفية تجمعاً لدعم الجيش يُنشدون فيه أغاني غير متقنة اللحن والكلمات. وفي صباح اليوم التالي وصل سعد الحريري إلى بيروت، وتشير المعلومات إلى احتمال أن ننتخب رئيساً بعد غدٍ الثلثاء. و... «هلّي عالريح»!