مدخل: هذه القصة كتبت منذ سبعة عشر عاماً ولم تنشر صحفياً.. أنشرها وكأنها تحكي حالنا اليوم. أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد.. وحق الفدا..! لا يدري حين همز زر التسجيل كيف خرجت له هذه الأغنية! ربما لم تمس هذا الجهاز يد منذ سنوات طويلة، فهو ساقط بين الكتب والأمتعة التي علا فوقها الغبار، غبار السنين، وغبار الأيام الغبراء التي جعلته ينصرف عن كثير من الأشياء التي كانت تهمه وتعنيه. أثارت الأغنية زوبعة من العواطف الدفينة الراكدة أو الخاملة في ذاته. فالمرء قد يختزن الآلام والعواطف المتناقضة والتي تتراكم داخله وتظل راكدة ذلك الركود الحذر الذي يشبه ركود الأفاعي أو الألغام، والتي تتفجر عند أدنى ملامسة.. هبت عاصفة كالسيل العرم، جرفت كل سدود الركود في ذاته. هذه الأغنية كانت تهزه في صغره، كانت تحرك وتبعث فيه روح الاعتزاز والكبرياء، ورفض الذل والهوان. كان يشعر بذلك النداء الجمعي لأخذ الثأر ورد الاعتبار. كانت تستفز فيه مشاعر الشجاعة والفروسية. كان مسرفاً في سماع هذه الأغنية.. حتى أبوه الذي يرفض الغناء، لم يكن يعترض عليه عند سماعها، بل كان هو الآخر يهتز لعبارة: «فحق الجهاد وحق الفدا». وقف مبهوتاً بين تلك الأشياء القديمة والأغنية تنبعث من جهاز التسجيل المغبر، كما تنبعث روح في جسد هامد. كأن الأغنية تتسرب إليه من عالم غريب قديم قدم التاريخ، بل قدم تلك الروح التي تلاشت وماتت، والتي لا يدري كيف ماتت وكيف تلاشت..! هذه الأغنية كانت تضج في إذاعات العالم العربي فخنقت فجأة. أدرك وهو واقف وفي لحظة خاطفة، أن الأشياء يمكن أن تتغير وأن تتبدل بشكل سريع وغير محسوس، حتى تختفي ملامحها تماماً. أدرك كيف تتحول الأشياء المتحركة إلى صمت قانط. الكتب.. جهاز التسجيل.. المكان الذي كان يعج بالحركة هو الآخر انزوى على نفسه في صمت ووجوم. مَنْ يصدق أن التاريخ يصمت ويتغير.. من يصدق أن المُثل والقيم والحقوق والمبادئ تلوذ بالصمت. هذه الكتب التي تدعو إلى المطالبة بالحق.. هذه الدواوين، هذه الصحف، هذه القصائد، هؤلاء الكتّاب، هؤلاء الشعراء لاذوا بالصمت في هدوء يشبه التخدير، حتى هو لاذ بالصمت من حيث لا يشعر. الجهاز هو الذي فتح النافذة أمام هذا الحشد المزدحم الصامت. شعر بخجل محرج وهو يواجه تلك الكتب، والدواوين والقصص التي خانها الإهمال والتجاهل. فتح أحد الدواوين، وجد قصيدة قد ملأها بالشروحات والتعليق.. تذكر أنه كان قد حفظها عن ظهر قلب. حاول أن يستعيد شيئاً فخانته ذاكرته التي لا تخون أو تغدر، قرأها بيتاً بيتاً، فكان كل بيت سوطاً يجلد ضميره، تملكه إحساس بأنه شارك في ضياع قضيته. كيف طارت الأبيات، بل كيف احترقت الأبيات، كيف أصبحت عيوناً من رماد بعد أن كانت طيوراً من جمر؟ هذه الكتب التي علمته قدسية قضيته وعدلها.. ما الذي جعله يهملها هذا الإهمال؟! تلبسه هاجس بأنه مذنب داخل محكمة وأنه محاط بوجوه أصدقاء أساء إليهم وأخطأ بحقهم.. بل اعتقلهم ومارس عليهم اسوأ أنواع الاضطهاد. ولكنه عاد إلى نفسه يسألها: هل الذنب ذنبي؟ ماذا لو أنني حفظت كل القصائد والدواوين والخطب والأغاني؟ واستعملت كل الوسائل اللسانية والحلقية. هل سأكون قد ساهمت في تحقيق نصر أو دفع هزيمة؟ وجم قليلاً وازداد حيرة.. ولكنه استدرك: لقد أدخلت نفسي في مأزق آخر.. ربما أنه الدفاع عن النفس بسبب الإحساس بالذنب، وتأنيب الضمير.. أنا جزء من أمة، بل أنا فرد في أمة، فكيف أنسف حقاً تاريخياً ودينياً وثقافياً تشربته منذ نعومة أظفاري بهذا الخذلان والانهزام؟ ما كان ضرني لو صمدت بذاكرتي ومشاعري، وأحاسيسي مع قضيتي.. كما تحتفظ هذه الكتب بمشاعرها وأحاسيسها رغم تراكم النسيان والغبار.. بل كما تحتفظ هذه الأغنية بروحها وحزنها الشجي؟ «أخي جاوز الظالمون المدى.!». يسمعها مرة أخرى، فينثني على كبده، يرى بنفسه كيف انكسر الأمل، يرى كيف تقيدت روحه بهذه الأغلال والأصفاد التي جعلته لا يفتح إلا نصف عينه كي يرى طريقه فقط، فلا ينزلق في الهاوية.. وأي هاوية أشد عنفاً من هذا السقوط المفجع الذي يهوي بكل شيء إلى الحضيض؟ َ«بعض المثقفين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن العدو بكل وقاحة وبلا خجل أو حياء، وبرهنوا على أن الولاء للمصلحة فوق الولاء للوطن». حاول أن يفلت من الموقف فيسحب نفسه من هذا الذهول الذي قيده وسمره في مكانه فلم يستطع. صارت صوراً تتداعى في مخيلته.. ومشاهد تحاصره من كل صوب.. صورة الذل والخنوع والمهانة.. صورة الشجاعة والفروسية والبطولة.. صورة الإنسان العظيم الشامخ.. وصورة الإنسان الضعيف الخائر المستسلم.. صور معارك وشهداء وتاريخ حافل بالبطولات والعزة والمنعة.. وصور لهزائم ونكسات ونكبات.. صور لمخلصين وعمالقة، وصور لسماسرة وبائعي كرامات.. صور لوطن ينمو ويكبر، يرتفع فوق هامة الشمس، وصور لوطن يتلاشى ويتمزق ويذوب حتى الاختفاء. شعر بأن روحه مبعثرة، وأنها تتمزق، وكأنها تحت مخالب جارح شرس. صحا على حركة ابنته الصغيرة وهي تهز رأسها على إيقاع الأغنية: «أخي جاوز.. فحق». مسكينة ابنته، بل مسكين هو.. فزع لمرأى ابنته، انتابه هاجس مرعب ومخيف.. هذه الصغيرة التي ترقص، هل تدري ماذا تقول الأغنية ولماذا قيلت وفيمن قيلت؟! هل تدري أن هذه الأغنية كانت إحدى أدوات السلاح التي تمنع اغتيال الأطفال والأرض والكرامة، وأن كل شيء قد اغتيل.. السلاح والأرض والكرامة. هل سيكون لهذه الطفلة مستقبل يمنعها من كابوس الحاضر، أما أنها تعيش مستقبلاً مغتالاً سوف يداهمها في لحظة صمت وغفلة فيجرفها إلى المجهول.. راعته مشاهد المستقبل وصوره البشعة.. الأغنية مستمرة والطفلة تهز رأسها.. وهو ينتحر في داخله.. ضغط زر التسجيل لإسكات الأغنية التي ملأت داخله بالجراح والنزيف. فصمت التسجيل لكن أصبعه من حيث لا شعر، أدار محرك الراديو في الجهاز، فإذا صوت مذيع عربي ينطق بهذا النبأ في سخط: «قام إرهابي فلسطيني بتفجير نفسه أمام حافلة جنود إسرائيلية، فاستشهد خمسة جنود إسرائيليين». إرهابي فلسطيني؟! استشهاد خمسة جنود إسرائيليين؟! أقفل الراديو وضغط زرار التسجيل. راح المغني يردد: «أخي جاوز الظالمون»، وابنته الصغيرة تهز رأسها. أما هو فقد هوى في غيبوبة عميقة من الذل والحزن الكظيم.