لست هنا لتقييم فرقة أو طائفة، إنما للبحث عن ثقافة الطاعة، أتحدث عن "الجامية" كفِكر ونهج تغير تماماً وتوسع كثيراً حتى تخطى حدود الجماعة السلفية المحدودة التي ظهرت على يد الأستاذ الشيخ محمد أمان الجامي -رحمه الله- حتى أصبح كثير من الأدباء والشعراء والرياضيين والمثقفين وغيرهم أعضاء بارزين في جماعة "الجامية"، وإن من بعيد. إن من يقرأ عن "الجامية" أو يقرأ لها، سيجد تطرفاً في كلا الاتجاهين، فخصوم "الجامية" قد شيطنوها، وهي في المقابل قد شيطنتهم. اتهامات مُتبادلة في كل الاتجاهات، وتراشق بالألفاظ قد أصاب الجميع، وركيزة كل الجدالات تدور حول مفهوم "الطاعة" هل هي عمياء أم نسبية؟ فهل هي عمياء أم نسبية؟ لا يهم. المهم أن هذا الكم من الجدالات قادر على ليّ أعناق الحقائق كلها، قادر على تزييف الوعي كاملا، فإن صح ما يُقال عنها أو لم يصح، إن صح ما ينُسب إليها أو لم يصح، وسواء أكانت على حق أم على باطل، تبقى الحقيقة أن "الجامية" اليوم ليست ما كانت عليه بالأمس، فالأفكار قد تبدلت والخصوم استناروا والوصول إلى المعلومة بات أسرع من الخاطر. اليوم ما عاد مجنون بني عامر "قيس" مستفرداً بالغناء إلى ليلى، فكل بات يرى أن من حقه التقرير بين خطب ود ليلى أو الامتناع عن خطب ودها. "الجامية" اليوم ما عادت محدودة بحيِّز جغرافي محدد "الخليج"؛ فقد تفرعت وتوسعت كفِكر في الوطن العربي كله، حتى اختفت ملامحها الأولى تماماً، وباتت تحمل ملامح جديدة تكاد لا تُشبهها، والسر في هذا الانتشار، لا أراه يعود إلى قوة الطرح، إنما لمحاكاة هذا الفِكر لطبائع الإنسان، فالإنسان الذي جُبِل على مفاهيم كالحرية والرغبة في الاستقلالية، هو نفسه الذي يحمل هم تحقيق مصالحه كطبع أصيل، هذان الأمران في الإنسان دائماً في حالة تعارض، وغالباً تنتصر المصلحة على حساب الحرية. إذاً، يُمكِن القول: إن الفِكر الجامي اليوم، تحول إلى فِكر غايته تحقيق مصلحة، تحول إلى فِكر يحمله غُلاة لا مُصلِحون كما بدأ الأمر، غُلاة يؤمِنون بأن كل مسؤولٍ لابد وأن يُطاع كواجب شرعي وأن في عدم طاعته خروجا عليه، كما حدث مع "القذافي" الذي أنكر السُنة وحرف القرآن وشتم الصحابة، ثم جاء من يُصرِح علانية بأن من لا يُطيعه فهو من الخوارج! لابد للجامية في الوطن العربي، أن يعودوا إلى منطقة الاعتدال في الطرح، فغلاتهم قد شوهوا صورتهم في أعين الكثيرين، لا بد من إعادة غربلة لكل هذا الفِكر، يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".. الآية تقول: "منكم" وغلاة "الجامية" قد حولوها اليوم إلى "عليكم"، وهذا تغيير بسيط في الشكل، لكنه عميق جداً في المعنى. "منكم" لها معان متعددة منها، أولو الأمر الملتزمون بأمر الله ورسوله كما أشارت الآية، والله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، بينما "عليكم" لها معان أخرى تشمل كل مسؤول حتى الآمِر بالفحشاء والمنكر، الناهي عن العدل والإحسان، "منكم" فيها رحمة ومساواة بينما "عليكم"، من لفظها تظهر فيها معان كلها تسلط، وغلاة "الجامية" اليوم باتوا يرون كل ولي أمر مُطاع وإن كان متسلطاً على المسلمين. لماذا الحديث عن "الجامية"؟ لما طالها اليوم من تشويه، تشويه من الداخل والخارج، تشويه لا يخدم مصلحة هذه الفرقة التي بدأت بأفكار معتدلة جميلة وأضافت الشيء الكثير، تشويه إذا ما استمر، فلا متضرر إلا واقع المسلمين. إن جيل اليوم لن يقتنع بتلك السهولة، إنه جيل مختلف، يسأل ويسأل، وبين السؤال والسؤال يضع ألف سؤال، يسأل عن حدود الطاعة الواجبة، وعن صفات المُطاع، وعن نهج الطاعة، عن الفرق بين الطاعة والانصياع، جيل اليوم يسأل: هل الطاعة عمياء أم نسبية؟ فإن كانت عمياء سيعدها رزية، أما إن كانت نسبية فكل حديث حينها مباح. في الختام: "الجامية" لم تأت بشيء جديد، هذه حقيقة على خصوم "الجامية" تقبلها، فمفهوم الطاعة في ثقافاتنا يزيد بمراحل عما تعرفه معظم الثقافات الأخرى، إنها قيمة اجتماعية نعتز بها، فضيلة نتمسك بها حفاظاً على بنيان المجتمع بشكل سليم، كل ما في الأمر أن الطاعة في زمن التِّيه البائس باتت قناعاً يُخفي وراءه كل معاني الانصياع، كل ما في الأمر أن نُعيد مراجعة مسلماتنا واختبارها من جديد، وفي طريقنا فلنعد إلى مفهوم الطاعة ملامحه التي تاهت وسط غبار معارك "الجامية" وخصومها.