رجال في الذاكرة حمزة شحاتة – يرحمه الله – المفكر والأديب والعالم د.غازي زين عوض الله المدني قرأت حمزة شحاتة فوجدته شجرة سامقة تتلمس جذورها الحكمة من ماء الأفكار والأشكال والنصوص التي ارسلها اصحابها كسحاب منهمر يفجر أودية البيان ولا يمنح اسراره وألوانه إلا لمن شق لعقله وقلبه دروبا، وهو يبحث عن معينه الخاص الذي سيستمد منه مداد قلمه، قرأت حمزة شحاتة فهو من ابناء ذلك الجيل الذين كانوا يصنعون المعارك الأدبية كشعراء النقائض يحاول كلا منهم أن ينحت اسمه في أودية الكلام ليحتفظ بصورته في جبال البيداء، كل منهم علم وعلامة يجتمعون في عصف ذهني ما يلبث أن يتحول إلى روائع فخر وهجاء وفي تلك الروائع يبحث كلا منهم عن معنى الحياة، يتعمق في استقصاء تفاصيل المأساة والملهاة ويمضي الشباب سريعا، ويتجاوز اللاعبون أدوارهم لتظهر الدنيا أمامهم واسعة فيعاتب الأصحاب ويتصالح رفاق الرحلة حتى يقول حمزة شحاتة نفسه تحت عنوان معاركنا الأدبية – مشاحنات صيبيانية ما يأتي (أن المعارك الأدبية التي خضتها، كما سماها بالمعارك لم تكن في رأيي سوى مشاجرات تغلب عليها صبينة الفكر قبل أن يذيل، وكانت أسبابها غاية في التفاهة وكذلك موضوعاتها، كانت تفرض على المثقفين في صورة دفاع عن حرماتهم الأدبية والذي يضحك أني لم أكن أتقبلها المروءة، بل ودائما بسبب التورط الذي أعرض كيف يحدث، وكيف يتكرر برغم الحيطة والحذر والتحذر، ربما كان التأثر بميراث عبقرية الصحراء التي انتجت نقائض جرير والفرزدق والأخطل، ربما كانت حالة عامة في أدبنا العربي، نجد لها نظيرا في معارك الرافعي والعقاد وطه حسين والمازني وعبد الرحمن شكري ويبدو أن لدينا ولعا بالهجوم على الأشخاص بدلا من نقد الأفكار، وهذ ما اعلنه حمزة شحاتة نفسه أيضا في مقال عنوانه حللوا الأفكار ولا تهللوا أصحابها يقول فيه: عنف.. قنسوة.. شتائم.. مهاترة.. أوصاف يتبادلها كثير من الكتاب أحيانا في ثنايا الرد على منتقدي أفكارهم.. ولقد فات هؤلاء وأولئك أن أولى دواعي تثبيت الفكرة البعد عن كل ما ينقص من الكاتب وفكرته.. وفي رأيي أن أي فكرة يعتنقها في واقع الامر يبدو غريبا لم يتابع ما تركه حمزة شحاتة من كتب تجمع بين الشعر الخليجي، والشعر الحر، ونثر يجمع بين الفكر المطلق، والنصائح الموجهة، ونقد الذات قبل نقد الآخر ومحاضرات طويلة في النقد والجمال وخواطر قصيرة سريعة كفراشات طائرة حول مصباح يشع هالة اورجوانية يبدو غريبا، ان هذا كله لاديب واحد، أديب أثبت نفسه في مضارب المحافظين، ومنتديات المجددين معا، ولكنه فعل ذلك عن ادراك ذهني واع قبل أن يكون عن موهبة فطرية متوحشة لا ترتوي من الفكر والجمال، ولقد رأيته يقول ما يدل على هذا الوعي لتطور الحضارة الانسانية ومعطياتها، وضرورة الافادة من هذا التطور الذي انطلق من النزعة العقلية التي تحترم التفكير والابداع في أفكاره كافة، حين تصفحت المقالات التي جاءت في الجزء الثاني من اعماله الكاملة، ولنقرأ له هذه الفقرة: أطلقت ثقافات الحضارة وتبذلت المقاييس، لقد تغير كل شيء في حياتنا فلماذا يقف الشعر بقوالبه الجامدة وحدوده المتصلبة، لا يتغير مع طاقات الجيل الجديدة؟ بدأت التجربة بين زحف ونهوض وتحليق واسفاف.. واحتفظت التجربة بين زحف ونهوض وتحليقواسفاف، واحتفظت التجربة بالوزن على المستوى التفعيلية المتحررة من حصر التجديد وبالقافية ترميما داخليا، كالسجع غير الملزم، وأشهد أنها انطلاقة ان دامت لها قوة الدفع خرجت بالشعر العربي إلى أوسع افاقه وأجزلها عطاء عاش حمزة شحاتة 1322 / 1391هـ" 1904 / 1971 فترة خصبة في تاريخ بلادنا وأمتنا، ولد بمكة المكرمة وتعلم في مدرسة الفلاح بجدة، كما تعلم كثير من ابناء جيله وقرأ الادب السائد في فترة تكوينه الاولى بمطلع القرن العشرين الميلادي، ويبدو أنه مولع بالمفكر الكبير عباس محمود العقاد الذي أرى أنه أثر في أدباء الحجاز بابداعه وشخصيته على حد سواء، فهم أقرب إلى العصامية مثله، وإن كان لطه حسين أكاديميته اثر ايضا لكنه لا يصل الى مرتبة العقاد في أدب الحجاز بل أن ادباء الحجاز حين يستعملون كلمة الاستاذ فان المقصود بها في تعبيرهم يكاد ينحصر فى الاستاذ عباس محمود العقاد وحده، ولقد رايت شحاتة يعود الى اراء العقاد مستشهدا بها ومستلهما منها قوة لافكاره في محاضراته الرائعة التي القاها في جمعية الاسعاف الخيري بمكة المكرمة عام 1983م بعنوان الرجولة عماد الخلق الفاضل واستمر في الحديث يومها نحو خمس ساعات متصلة، فصارت المحاضرة مثال في بلاغة الخطاب وتماسك الأفكار يتأثر بها المحاضرون في الملتقيات الثقافية، كما يتأثر كتاب القصة بالمنفلوطي وكتاب التراجم بالعقاد، والشعراء بأحمد شوقي ولا يستطيع محاضر أن يلقي في جلسة واحدة ما يعادل كتاب متوسط الحجم الا اذا تمتع بثقافة واسعة وبلاغة لسانية قادرة على توظيف الاداء الصوتي، وجذب انتباه الحضور والتنويع في مستويات الخطاب الفكري مع الاحتفاظ بالخط الموضوعي الاساسي، واقامة روابط انتقالية تحفظ للوحدة الموضوعية تماسكها فيظل المحتوى المضموني مترابطا، وبالتوازي مع عناصر السبك الموضوعية تسير عناصر السبك التي تربط النسيج اللغوي معا ولا يمكن ان يستغني خطاب بهذا الطول عن التمثيل الثقافي الذي يظهر به المحاضر خبراته، فينطلق محلقا في افاق التجارب الانسانية، وقد رأيت حمزة شحاتة في كتاباته مطلعا على تجارب الامم وحكمة الشعوب ويتجلى في شعره باب كامل يمثل ديوانا في الحكم والتجارب وقد بدأ هذا المجال بقصيدة في مدح مكة المكرمة التي ولد فيها فيقول: الجبال السمر والرمل العتيد فيك يا ام القرى عقد وديد ويقول في عتاب الدنيا: لك العذر يا دنيا فللاثم رونق تطيب دنياه وتحلو مخاطره لك الويل يا دنيا أما يكسب الهوى لديك كريم النفس، طابت عناصره وشعر الحكم يحتاج الى خبرة بالحياة وطول نظر وقد توافرت بحمزة شحاتة خبرات افادته في تكوين رؤيته فقد سافر للهند في شبابه، وعمل موظف لنحو عشرة اعوام، وعاش بجدة فترة من شبابه دخل فيها معارك ادبية مع فحولها الكبار وانتقد اعلام شعراء عصره باساليب تصل الى حد السخرية المريرة التي تذكرنا باساليب الجاحظ قديما، وعبد العزيز البشري حديثا ، وسافر الى مصر فعمل في دار البعثات السعودية، وفي هذه الوظيفة يتاح للمثقف السعودي ان يلتقي باعلام مصر وادبائها ومفكريها، كما يتاح له ان يلتقي بشباب بلاده من طلاب العلم جلسات طويلة على نيل مصر صحبه فيها اصدقاء مقربون منهم عبد الله عبد الجبار، وعبد الحميد مشخص، ومحمد نور جمجوم، ومحمد قطان، تسري اطراف الاحاديث بينهم مع زجزجة ادواء الجيزة الساهرة على صفحة المياه المعذبة، فتبوح القلوب باسرارها والحقول بافكارها والذاكرة باخبارها، والقريحة باشعارها وما تصدره من اعمال لهؤلاء العلام هو اعادة قراءة المسار تاريخنا الثقافي العربي الذي تفاعلت فيه الرؤى وتشابكت فيه خيوط النسيج الواحد المتعدد الالوان، والغريب في كتاباته ان اعاد للعربية ادب الخواطر ببلاغة الايجاز الذي يتميز بها، وهي تجمع بين سلاسة الاسلوب وقوة الفكر، وقد اضاف حمزة شحاتة الى الخواطر توظيف المفارقة التي تكسب النص نوعا من الطرافة والعمق ومن خواطره التي اودعها افكاره اذا كنت لا تهاجم النساء بجنون ولا تدافع عنهن بحماقة، فمن الخيرلك الا تضع اسمك على مؤلفاتك وهذا الخاطرة تمثل موقفا لشحاتة في قلب المراة وعقلها ولا يغرنا هذا الحديث عن المراة في هذا السياق لان المراة هنا مفهوم ثقافي فهي الام التي تعادل دلاليا الامة وهي الانسانية لذلك يبحث الكاتب عن صورته قائمة القراءة النسائية لكنه لم يفرز بتلك الصورة الا من زاويتين متقابلتين، وهنا تكمن المفارقة، فاما ان يهاجم ذاك الاخر الذي يحاول ان يصل اليه، واما ان يستميت في الدفاع عنه وهذا هو ما يجذب الاخر الذي ننظر اليه بوضعه محل الاشباع الجمالي. ان شحاتة من حيث المضمون ينبهنا الى الحدة المزاجية للمراة، فهى لا ترى انصاف الحلول ولا تعترف بمنطقة التفاهم المشترك، انما هي تضع نصب عينيها من يهاجمها لتوسعه نقدا او لتحاول جذبه الى دائرة افكارها لكي تغير وجهة نظره، على الجانب الاخر تجد في المدافع بشدة عنها نوعا من الحماية والثقة، لكن الذي جذب انتباهي في خواطر حمزة شحاتة هذه وهي كثيرة انها تسبق شكل الكتابة الذي ظهر بعد ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي التي تقيد النص بعدد من الحروف او تلزم الكاتب بمساحة تعبير محدودة بشكل مباشر عن طريق نظام الكتابة الالية نفسه او بشكل غير مباشر لان القراء لا ينظرون الى النصوص الطويلة وادركت ان حمزة شحاتة كاتب سبق عصره بل ادركت ان فن الخاطرة الذي كان موجودا عند اجدادنا القدماء وخاصة بان الجوزي بكتاب كامل، فيض الخاطر، هو فن العصر، وان الاشكال التعبيرية القديمة تفرض نفسها على المستحدثات التكنولوجية. فالانسان هو الانسان سيظل يبحث عن طرائق تعبيرية واتصالية وحينما يظن انه اكتشف الجديد سيجد انه يتذكر ابتكارات قديمة، واني اضع امام القاريء الكريم مجموعة من كتابات حمزة شحات في الخاطرة، يرى كيف يتشابه مع معطيات العصر الرقمية في الايجاز والدقة ، وان كانت تتجاوزها بالفصاحة اللسانية وعمق الفكر، يقول حمزة شحاتة: لا شيء يدللنا اكثر من رغباتنا كم كان كان الانسان منافقا حينما وضع للحب الشهواني اسماء اخرى ان للنذل ضميره ايضا لكنهما دائما على وفاق ومن الواضح ان الكتب في الخاطرة السابقة يوظف المفارقة مانحا المعنى شيئا كبيرا من السخرية ويضيف الى هذا المعنى خاطرة اخرى فيقول: النذالة مثل الفن فهي موهبة في الاصل ثم استمرار بعد ذلك. مسخرة شريفة السر في بلبلة الشاعر وعذابه انه يحاول تحويل الحلم لوقع ثم تحويل الحلم لواقع، ثم تحويل الواقع الى حلم. ليس من الممكن فقط ان يعيش الناس بلا شعر بل من المستحب. الحرب ضحكة، لا تدين الا المغلوب وبعد فهذا فيض من خواطر الرجل ستظل كتابا وتطرح نفسها على مائدة الباحثين ومع تداعي الخواطر وشكرا.