قطعاً، لا أحد يتحدث عن الأمن في هذا البلد الطيب المبارك، دون أن يستحضر قول الله تعالى في سورتي الفيل وقريش، وكلنا يعرف أن القرآن الكريم نزل متواتراً، ومن جلال حكمة الله تعالى أن السورة الثانية جاءت في ترتيبها في المصحف بعد السورة الأولى مباشرة. وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إن الأمن في الأوطان، إحدى نعمتين، ثانيتهما الصحة في الأبدان). وعندما جاء الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، وأسس هذه الدولة الفتية المباركة، كان أكثرنا استحضاراً لهذه المعاني السامية، وأعمقنا فهماً لمعنى الأمن وأهميته في حياة الأمم والشعوب واستقرار الدول. فاعتمد سياستين أساسيتين مهمتين، حققتا هذا التحول الجذري الذي طرأ على حالة الأمن في البادية والحاضرة على السواء، وذاع صيته حتى أصبح بصمة سعودية بامتياز، وعلامة فارقة لا مثيل لها في دول العالم قاطبة، لاسيما ما يعرف بـ (العالم الأول) الذي زلزلت الجريمة أركان اقتصاده. السياسة الأولى: اعتماد الشريعة الإسلامية والسنة النبوية دستوراً للبلاد، وتطبيق الشريعة بحذافيرها في سائر ربوع الوطن، فتشربت روح الناس بها وأصبحوا يقيسون كل أمر بمقياسها، ويدركون جيداً المصير الذي ينتظر كل مخالف من حدود وعقوبات. السياسة الثانية: التزام منهج العدل بشكل صارم لا التواء فيه ولا محاباة، فاحترم الجميع عبدالعزيز ووثق فيه وهابه، لأنه أكد للجميع أن تطبيق الشريعة الإسلامية يطال الكل بلا استثناء، بدءًا بالملك نفسه. ولم يكن تأكيد عبدالعزيز كلاماً مرسلاً للتهديد والوعيد أو الدعاية الإعلامية الرخيصة، بل هو تطبيق فعلي للشريعة والعدل الذي هو أساس الملك، وقد قرأنا كلنا في تاريخنا المجيد، أن عبدالعزيز كان يجلس مع خصومه أمام القاضي، مثله مثل سائر أفراد شعبه. والحقيقة حكايات عبدالعزيز مع العدل أكثر من أن تحصى، وكلنا يعرف شيئاً منها، حتى مع أبنائه، إذ لا يفرق بينهم وبين أبناء المواطنين فالكل عنده سواء، والكل أبناؤه، غير أنني أردت اليوم أن أشارك القراء الأعزاء في حكاية واحدة من حكايات عدل عبدالعزيز الذي سارت به الركبان، تبدو للوهلة الأولى كالأسطورة، لكنها حقيقة ماثلة للعيان، أوردها(A.H.Armstrong) في كتابه (Lord of Arabia) إذ يقول: (كان ابن سعود يتعامل مع كل قضية بنفسه وجهاً لوجه مع المشتكي والمشتكى عليه، ولم يكن هناك محامون لتعقيد الأمور أو إثبات الأسود أبيض، بل كان يستمع إلى الدليل بسرعة ويعطي حكمه الذي لا يقبل الاستئناف. وبينما هو جالس للنظر في شؤون الناس ذات يوم، جاءته امرأة تصرخ، تقول إن بقرة جيرانها دخلت بستانها فأكلت جميع البرسيم. فأنكر جارها التهمة بالقسم، فطلب ابن سعود من القصاب ذبح البقرة وشق بطنها، فوجدت مليئة بالبرسيم. فبقيت الذبيحة مع مالكها وأجبر على دفع تعويض على البرسيم، إضافة إلى غرامة مالية كبيرة عن اليمين الكاذبة). فأي عدل هذا الذي أعجز كل من كتب عن عبدالعزيز، أن يجد لعدله مثيلاً غير عدل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويلخص سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، ولي العهد الأمين، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، استحضار عبدالعزيز لهذا المفهوم في كلمات معدودات شاملات، ولا عجب، فسلمان هو (Google) تاريخنا وأعرفنا بعبدالعزيز، إذ يقول: (هنالك ثلاثة أمور أساسية، كان الملك عبدالعزيز لا يقبل فيها جدالاً إطلاقاً، ولا يقبل فيها أي خلل، أولها العقيدة ودفاعه عنها وتمسكه بها وعدم المساس بها. والثاني الأمن، أمن الدولة، ولا يمكن بحال من الأحوال تطبيق الشريعة ما لم يكن هناك أمن في الدولة. والأمن ليس بالبطش أو بالرعب، بل بالعدل وتحكيم كتاب الله وسنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام. والثالث الحفاظ على حقوق الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم). وقطعاً، لا أحد يتحدث عن الأمن في البلد الحرام، دون أن يذكر رجل الأمن الأول، ويستحضر إنجازاته التي تفوق الخيال، سيدي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، ولي عهدنا السابق وزير داخليتنا الأسبق، الذي اضطلع بمهمة أم الوزارات في بلادنا لأربعة عقود، منافحاً عن أمننا، وسلامة بلادنا، وحماية مقدساتنا، وعاملاً بكل همة ونشاط، واصلاً الليل بالنهار لننام نحن ملء جفوفنا، حتى غدا الأمن في العالم كله بصمة سعودية راسخة، وعلامة فارقة متميزة. وعلى درب الوالد المؤسس عبدالعزيز آل سعود، نجد أن حكاكات نايف النايف مع العدل بين الرعية تفوق الوصف، فحظيت بإعجاب القاصي والداني، وانقسم العالم بين مغبط وحاسد على ما منَّ الله علينا به من نعمة الأمن والأمان والاستقرار بجهود قادتنا الأوفياء. وأورد هنا واحدة من حكايات نايف مع العدل الذي هو عماد الأمن، وردت تقريباً في كل صحفنا المحلية التي تسابقت لذكر محاسن فقيد الوطن والأمة الكبير، إثر رحيله في يوم السبت 26 من رجب 1433هـ، الموافق 16-6-2012م. مفادها، أنه أمر، رحمه الله، بعد تحقيق لثلاثة أشهر، أجرته لجان رسمية، أكدت ظلماً اقترفه محافظ إحدى المحافظات (جنوب مكة المكرمة) ومدير شرطتها بحق مواطن برئ، أمر نايف بنقل الأول إلى محافظة أبعد من المحافظة التي كان يرأسها، وجرد الثاني من منصبه وسجنه ثلاثة أيام ونقله إلى أبعد مركز عن مركزه، مؤكداً للجميع أن عبدالعزيز مازال، وسوف يظل إلى الأبد إن شاء الله، يعيش بيننا. تلك هي سيرة نايف فينا، على درب المؤسس، حاملاً الرسالة ذاتها التي تهدف لإعمار الأرض وتحقيق الخير للجميع. ولهذا عندما كشَّرت آلة الإرهاب القبيحة عن أنياب الشر والعدوان والخراب والدمار، وإزهاق الأرواح البريئة، وتعطيل عجلة التنمية، لغرس الفتنة والفوضى، انبرى لها نايف مع أول هجمة جبانة في 20-6-1416هـ، يوم أعلنت وزارة الداخلية عن حدوث تفجير في أرض فضاء، مخصصة لمواقف السيارات، قرب بعض العمارات السكنية في شارع الثلاثين بحي العليا بالعاصمة الرياض، استهدف مكتب تطوير الحرس الوطني السعودي، فأودى بحياة ستة ضحايا، خمسة أمريكيين وفلبيني واحد، هم مستأمنون لدينا، لا يجوز قتلهم أو الاعتداء عليهم حسب حكم الشرع، إضافة لستين جريحاً، وأضراراً مادية قدرت بخمسة وعشرين مليون ريالاً. ولم تمض خمسة أيام فقط حتى تم القبض على جميع المتورطين في 25-12-1416هـ، وللأسف الشديد، كانوا ثلاثة من أبنائنا الذين غرر بهم دعاة الفتنة، وزجوا بهم في معركة خاسرة لا محالة، وورطوهم بقتل الأبرياء، ولوثوا أيديهم بسفك دمائهم، غافلين أو متغافلين أن من يقف خلفهم من الخوارج يريدون النيل من ديننا وأنفسنا وأموالنا ومحارمنا وأمننا واستقرارنا، وبالتالي انهيار المجتمع وتفكيك دولة العلم والعمل والخير. لكن فات عليهم أنهم ينازلون أسوداً لا قبل لهم بهم، فأدرك نايف من فوره، بحسه الأمني الفريد، وعبقريته القيادية الفذة، وشجاعته النادرة، ونيته الصادقة للدفاع عن المقدسات والبلاد وأهلها والمقيمين عليها مهما كان الثمن، أننا أمام جريمة وافدة جديدة ومنظمة، تدعمها خلايا عديدة من أصحاب الفكر الضال، الذين اجتهدوا كثيراً في إفساد الشباب والضحك على عقولهم والزج بهم في مستنقع خطر، يدمر حياتهم، ويقلق أسرهم ويقضي على أي دور إيجابي لهم في الحياة، ويضع نهاية مأساوية لرسالتهم في إعمار الأرض ونفع الناس. وصحيح.. نجح هؤلاء الخوارج المارقون عن ملة العقيدة، في اعتماد وسائل تضليل عديدة، وتقنية إعلامية حديثة، وتهريب كميات كبيرة من مختلف أنواع آلات الدمار والخراب وإزهاق أرواح الأبرياء، غير أنه فات عليهم أنهم ينازلون أسداً هصوراً، وعبقرية أمنية أسطورية، ومدرسة شاملة في حفظ الأمن وأرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم، خريج مدرسة المؤسس عبدالعزيز آل سعود، الذي صاغ مبدأً راسخاً مع بزوغ فجر دولته العتيدة: (معتقد المسلمين واحد حضري وبدوي، وأصله كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم السلف الصالح من بعدهم.. هذا الذي ندين لله به ونعتقده نحن ومشايخنا وأسلافنا، وهو الصراط المستقيم، فمن خالفه وهو جاهل، تجب عليه التوبة والرجوع إلى الله، ومن خالفه وهو معتقد بطلانه، فنشهد الله أنه ليس على شيء من الدين، لا أصله ولا فرعه، لأنه ما كذَّب مشايخنا، بل كذَّب كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلماء المسلمين واعتقاداتهم أولهم وآخرهم. وصحيح أيضاً أن اجتثاث شأفة الإرهاب استنفد كثيراً من جهد نايف وتفكيره ووقته ورجاله الأشاوس في وزارة الداخلية من كل التشكيلات والرتب والفئات، وأموالاً طائلة من الدولة، كما قدر الخبراء أن التفجيرات الإرهابية قد كبدت اقتصادنا ثلاثين مليار ريال خلال ست سنوات، إضافةً لما أحدثته من أثر حتى على حركة الناس، لاسيما في بداية اندلاع آلة الإرهاب الصماء؛ لكن لم يكن لرجل مثل نايف، صمام أمان الأمن العربي كله، أن يستسلم لشرذمة مدفوعة بأجندة سياسية ونوايا سيئة، أن تعبث بأمننا وتقلق راحتنا أو تعطل مسيرتنا القاصدة، فتعيقنا عن تحمل رسالتنا في الحياة. فاعتمدت بلادنا في اجتثاث جذور الإرهاب وتجفيف منابعه بقيادة رجل الأمن الأول، نايف بن عبدالعزيز آل سعود، صقار أمن الوطن، إستراتيجية شاملة، تضمنت إجراءات تشريعية قضائية كإنشاء المحكمة الجزائية المتخصصة، واستحداث دائرة قضايا أمن الدولة، وإعادة تنظيم جمع التبرعات للأعمال الخيرية، التي ربما استغلت لغير ما جمعت له، كما عززت الأمن الفكري، معتمدة أسلوب الحوار والإقناع من خلال مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، وأنشأت كراسي علمية تعنى بالأبحاث المتعلقة بالإرهاب وسبل مكافحته، أبرزها كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز لدراسات الأمن الفكري، كما أصدرت جملة من التعليمات واللوائح التي تنظم استخدام شبكة الإنترنت وتضبطه.. وقبل هذا وذاك، عزَّزت وزارة الداخلية جهودها لتأهيل كوادرها وتدريبها، واعتمدت العمليات الاستباقية، فتهاوت بيوت العنكبوت الإرهابية أمام عزيمة نايف ورجاله، واحداً تلو الآخر، واجهضت 95% من مخططات الفكر الضال التي حيكت بليل لزعزعة أمن البلاد وسلامة أهلها والمقيمين على أرضها في مهدها. وفغر الإرهابيون فاهاً، وضاقت عليهم البلاد بما رحبت، فتأبطوا شرهم وغادروا البلاد إلى غير رجعة، حيث طالتهم يد نايف الطولى بإذن ربها، وعزيمة صاحبها وأتت بهم، فاقتنع البعض وتاب ورجع إلى رشده بعد أن تأكد له غيّه وعاد لحضن الوطن الدافئ يضمه من جديد، مع ما أصابه منه من جراح وما لقيه من عقوق ونكران جميل؛ ولقي المعاندون جزاءهم وفق الشرع الحنيف الذي يمثل دستور بلادنا. وفي الوقت الذي كانت يد نايف القوية تزلزل الأرض تحت أقدام الفئة الضالة، وتدمر أوكارهم وتقتلع جذورهم، كان قلبه الحنون يواسي ذويهم ويطبب جراحهم ويكفل عائلاتهم، لأنه مؤمن يقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرى} وقوله سبحانه: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنْآنُ قَومٍ عَلى ألاَّ تَعْدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للِتَّقوَى}. ولأنه إنسان مسؤول لا يأخذ الناس بالشبهات أو جرائم الغير، تماماً عكس ما يفعل كثيرون في عالمنا اليوم، إذ يحبسون ذوي المطلوبين من والد أو والدة أو أخ أو حتى أخت أو زوجة وبنت، لكي يسلِّم المطلوبون أنفسهم، ثم يهتكون أعراضهم أمام ناظريهم، ليجبروهم على الاعتراف بما يريدون. ومن جانب آخر، كرّم نايف الشهداء من رجاله البواسل، وتكفل بعائلاتهم ومنحهم أعلى أوسمة الشرف وأنواط التكريم، وسوف تظل صوره وهو يزور أسر الشهداء في طول البلاد وعرضها، مهنئاً ومواسياً ومبشراً برعاية الدولة لهم، محتضناً أطفالهم ومقبلهم وماسحاً رؤوسهم، سوف تظل راسخة في ذاكرتنا ومغروسة في وجداننا إلى الأبد. صحيح.. كان نايف يواسي أسر الشهداء بكل ما أفاض الله عليه من عطف وشفقة وقلب رحيم، غير أنه كان يتألم في داخله لخسارة الوطن أرواحاً زكية وسواعد فتية، أعدها نايف للبناء والتطوير، لكنه في النهاية، كان يعود فيعزي نفسه لأنهم لقوا ربهم في أشرف ساحة.. وهل ثمة ساحة أشرف من ساحات الدفاع عن المقدسات والأعراض والحرمات والأرواح البريئة ومكتسبات الأمة التي تحققت بفضل الله، ثم بعمل وعرق ودم ودموع استمرت لعقود، فكتبوا أسماءهم بدمائهم الطاهرة في سجل الخالدين. تحمل نايف المسؤولية كما ينبغي لقائد مثله أن يتحملها، فراح يعمل في كل الاتجاهات صابراً ومحتسباً، حتى حصر تلك الفئة الضالة في جحر ضيق ثم قضى عليها، معتمداً في ذلك على ثقته بالله، ثم على قدرات رجاله وصدقهم وإخلاصهم وحبهم لوطنهم، واستعدادهم للتضحية ودفع الثمن مهما غلا، ليظل الوطن آمناً مستقراً. فحظي جهد نايف بإعجاب المجتمع الدولي بأسره، وجعل المملكة إحدى أهم الدول التي يستفيد العالم من تجربتها في مكافحة الإرهاب، إذ اعتمد إستراتيجية المواجهة الشاملة، كما تقدم، التي تعتمد المواجهة الفكرية والمناصحة. وحرص بجانب هذا على مراعاة مشاعر آباء المتورطين في ارتكاب العمليات الإرهابية وأمهاتهم وأقاربهم. فاختاره وزراء الداخلية العرب رئيساً فخرياً لمجلسهم، إضافة لرئاسته الفخرية لعدد من اللجان والهيئات وعضويته في كثير منها. فاعتمد مجلس وزراء الداخلية العرب برئاسته الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب التي سبقت كل جهد في مواجهة ظاهرة الإرهاب والتحذير منها. وأقرت بلادنا كثيراً من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب، كما التزمت تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن في هذا الشأن. فراقبنا العالم في البداية بحذر شديد، لكنه عاد واعترف في النهاية بقدراتنا الذاتية التي دفعت الغالي والنفيس، ليظل الأمن بصمة سعودية بامتياز. كما استطعنا بجهود نايف، اقناع العالم كله أن الإرهاب شر مستطير، يهدد السلام والأمن الدوليين، ولابد من تضافر جهود الجميع لمحاربته واجتثاث شأفته حتى لا تقوم له قائمة بعد اليوم. وفي شهر فبراير من عام 2005م، دعت بلادنا العالم لأول مؤتمر من نوعه، عرف بـ(المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب) الذي عقد بمدينة الرياض، عاصمة التحدي والصمود، أكد فيه علماؤنا أن الإرهاب يعد اعتداءً محرماً على الأنفس المعصومة من المسلمين وغيرهم، وفندوا مزاعم الفئة الضالة التي تروجها التنظيمات الإرهابية لتبرير جرائمها وكسب التعاطف، واتفقت معها كل دور الفتوى والهيئات الإسلامية في العالم كله، وتبرعت بلادنا بمائة مليون دولار لدعم المركز الدولي لمكافحة الإرهاب. فأثبتنا للعالم وعينا وثقافتنا وحبنا لديننا ومليكنا ووطننا وإخلاصنا لعقيدتنا. واليوم، بعد أن ترجل الفارس نايف عن صهوة جواد الأمن، انبرى للراية نجله الفارس الهمام، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، معاهداً الله ثم القيادة والمواطنين الكرام أنه لن يفرط في حمل الأمانة حتى يسقط دونها، فقاد موكب رجال نايف بالهمة نفسها والشجاعة ذاتها، وسار على درب والده البطل، لاسيما أن له سجلاً حافلاً في العمل في هذا المجال عندما كان مساعداً له في تسيير أمور أم الوزارات وحفظ أمن البلاد سنين طويلة، فجاء جاهزاً ومهيأً تماماً، يعرف ما يريد ويدرك كيف يحققه. فحث السير على خطي نايف وانتشر رجاله البواسل في كل الميادين، الأمن العام بكافة تشكيلاته، الشرطة، حرس الحدود والدفاع المدني وحتى المرور، فالكل يؤكد لنا في كل يوم أن نايف مازال بيننا، بل سيبقى إلى الأبد إن شاء الله، في هذه السواعد الفتية التي عاهدت الله على الذود عن حياض الوطن مهما كان الثمن. تداعت إلى ذهني هذه الخواطر عن قاهر الفكر الضال، أسد الوطن المنيع، فقيد الأمة نايف النايف، طيب الله ثراه، وعن دور خلفه ورجاله وأم الوزارات في حفظ أمننا، وأنا أتابع بحسرة وقلب يتفطر ألماً، لكن بفرح غامر أيضاً، ولا أبالغ إن قلت بفخر واعتزاز، حادثة الاعتداء الأخيرة على بلادنا وأسودها الأشاوس، التي نفذتها الفئة الضالة المارقة من الملة، يوم الجمعة 6-9-1435هـ، الموافق 4-7-2014م، عند منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن، وعلى مبنى الاستقبال التابع لإدارة المباحث العامة في شرورة، أدى لاستشهاد أربعة أفراد من أسود نايف: العريف فهد هزاع جريدي الدوسري، العريف سعيد هادي القحطاني، العريف محمد مبارك مبروك البريكي والجندي أول سعيد على حسين القحطاني، لكن بعد أن أذاقوا مهاجميهم الخوارج من الكأس ذاتها التي جاءوا يحملونها إليهم، فأردوهم قتلى. أما الشعور بالحسرة وتفطر القلب من الألم، فسببه خسارة الوطن أربعة رجال من أسوده الأشاوس، في مقتبل العمر وبداية الحياة والعطاء، ورد الجميل لهذا الوطن الغالي العزيز، الذي ندين كلنا بالولاء له ولقادته، وليس لنا غاية اسمي من الاستشهاد في ساحات الذود عن حياضه والذب عن أهله والمقيمين على أرضه، ثم إن الخوارج المعتدين هم أيضاً من أبناء هذا الوطن الغالي، الذي طالما التحفوا أرضه وتدثروا بسمائه وتمرغوا في خيره، فكان العقل والعرف، بل والدين، يقتضي وقوفهم في صف واحد مع أولئك الشهداء الأبرار للدفاع يداً واحدة ضد كل من تسول له نفسه العبث بأمننا أو الاعتداء على بلادنا وأهلها وضيوفها من مقيمين وزوار وحجاج ومعتمرين. أما الفرح الغامر، فلأن أسودنا ذهبوا للقاء ربهم في ساعة من أفضل الساعات، ويوم هو سيد الأيام، وشهر هو سيد الشهور. ومبعث الفخر والاعتزاز أن جنود الوطن رجال شجعان، وأسود أشاوس، ثابتون على العهد إلى الأبد، وعلى استعداد تام لدفع أرواحهم ثمناً للدفاع عن عقيدتهم وحماية وطنهم وصيانة أعراضهم، ولن يستطيع أحد تدنيس ذرة من ثرى هذا الوطن العزيز الشامخ إلا بالثمن الباهظ الذي دفعه المؤسس لتأسيسه وتشييد أركانه. والعجيب الغريب، بل المدهش حقاً، أن أولئك المتنطعين الخارجين عن الملة الضالين الذين يدَّعون الدين، قد فعلوا فعلتهم الشنيعة تلك، التي أفضت بهم إلى جهنم إن شاء الله، يوم الجمعة الساعة الحادية عشرة وخمسة وأربعين دقيقة صباحاً، حسبما جاء على لسان المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية اللواء منصور التركي، أي كان ينبغي أن يكونوا في تلك اللحظة في المساجد، يؤدون مع جموع المصلين صلاة الجمعة. ولا أدري أية عقيدة هذه التي تجيز لهم التأخر عن أداء الركن الثاني في الإسلام، في سيد الأيام وسيد الشهور، ليزهقوا أرواحاً بريئة، فييتِّموا الأطفال ويرملوا الزوجات ويفجعوا الآباء والأمهات، بل والوطن كله!. وكالعادة، لملم الوطن جراحه سريعاً، وهبت القيادة للاضطلاع بدورها كعادتها دائماً في رعاية أبنائها، فاتصل سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، بذوي الشهداء معزياً ومواسياً في مساء اليوم نفسه الذي استشهدوا فيه، كما زارهم صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن عبدالله، أمير منطقة الرياض، وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن خالد، أمير منطقة عسير، لتقديم واجب العزاء والمواساة، وهب المسؤولون في إمارة نجران سريعاً للوقوف مع أسر الشهداء، فصلوا عليهم وشيَّعوهم معهم إلى مثواهم الأخير، واتصل المسؤولون في مختلف أجهزة الدولة معزين ومباركين ومشيدين بأبطال تلك الملحمة الشجعان، بل عبر الوطن كله عبر مختلف وسائل الإعلام عن حزنه على خسارة أولئك الأبطال وامتنانه وعرفانه لحسن صنيعهم، ولم يكتف صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز بمهاتفة ذوي الشهداء معزياً، بل توج تلك الجهود وزارهم مغرب يوم الأحد 15-9-1435هـ، الموافق 13-7-2014م، بمقر سكنهم في مكة المكرمة التي وصلوها لأداء العمرة في هذا الشهر المبارك تنفيذاً لتوجيهات القيادة الرشيدة المسؤولة، وتناول معهم طعام الإفطار، مؤكداً لهم التزام القيادة برعاية أسر الشهداء وتلبية جميع متطلباتهم، داعياً الله للشهداء بحسن القبول ولذويهم بالصبر وحسن العزاء، مؤكداً اعتزاز الدولة بأبنائها الأبطال، مثمناً شجاعتهم ومشيداً بذويهم الذين أنجبوهم وعلموهم وأعدوهم لهذا اليوم. ولا أكتم القارئ الكريم سراً، فقد ذرفت عيناي الدمع الثخين وأنا أطالع صور أبناء الشهداء وحديث ذويهم وزملائهم وأصدقائهم عنهم، لاسيما تغطية زيارة سمو وزير الداخلية لذويهم التي نشرت بجريدة الرياض، عدد يوم الاثنين 16-9-1435هـ، الموافق 14-7-2014م، في صفحتي 4 و 5، التي اشتملت على حكايات حزينة ومواقف مؤثرة جداً، تحزن لها الصخرة الصماء. فأي دين وأي جهاد هذا الذي يخلف كل هذا الكم من الحزن!. أما صور الشهداء، ووجوههم النيرة المشرقة بحب الوطن وأهله، فقد ذكرتني بصور (192) شهيداً من حرس الحدود، الذين ضحوا بالغالي والنفس من أجل حماية الوطن، نشرت في صفحة كاملة بجريدة عكاظ، عدد الخميس 10-7-1433هـ، الموافق 31-5-2012م، ص 4. بمناسبة إصدار المديرية العامة لحرس الحدود كتاباً توثيقياً بعنوان (رجال في الذاكرة) اشتمل على أسماء (588) شهيداً لحرس الحدود منذ تأسيسه عام 1231هـ، حتى عام 1433هـ. كما ذكرتني صور (115) شهيداً تقريباً من مختلف الرتب والفئات، نشرتها معظم صحفنا الصادرة غرة شوال من العام الماضي بمناسبة تهنئة سمو الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، أسر الشهداء وذويهم بحلول عيد الفطر المبارك، مؤكداً لهم أن الدولة لن تنساهم أبداً، ولن تفرط في ما تركوه وراءهم من أسرهم وذويهم. وعلمت بجانب هذا أن القوات المسلحة أيضاً أصدرت العام الماضي كتاباً يخلد ذكرى (747) شهيداً من شهدائها الأبرار، الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لنعيش نحن في عزة ومنعة. أي أننا فقدنا حسب هذا الإحصاء، إضافة للشهداء الأربعة اليوم وشهيدي العوامية (1341) نفساً بريئة من خيرة رجال الوطن الأوفياء المخلصين، بسبب غي تلك الفئة الضالة، وما يعشش في ذهنها العقيم من أوهام. وبعد: صحيح أن قادتنا الكرام، حفظهم الله ورعاهم، يسارعون دوماً للوقوف، لا أقول إلى جانب أسر الشهداء وذويهم، بل أمامهم، فيتحملون عنهم كل ما خلفه أولئك الأبطال الأشاوس من مسؤولية، ويلبون كافة متطلبات أسرهم وذويهم، وكلنا يدرك أن ما تقدمه الدولة من رعاية مستحقة لأسر الشهداء وذويهم، يفوق كثيراً ما يعلن عنه عبر وسائل الإعلام، وعلى كل حال، إن رجالاً مسؤولين كقادتنا، ليسو في حاجة لشخص مثلي أو غيري ليحثهم على واجبهم. وأذكر أنني كتبت ذات مرة مقالاً بمناسبة كهذه، ناشدت فيه رجال الأعمال والميسورين من أبناء بلادي وبناتها، لتأسيس صندوق خاص لدعم أسر الشهداء وذويهم، لا لسد عجز الدولة التي يدرك الكل أنها لم تقصر ولن تقصر أبداً، إذ حاشاها التقصير في حقنا نحن الآمنين في دورنا، فضلاً عن أسر أبطال وذويهم استشهد عائلهم لينعم الوطن بالاستقرار ونهنأ نحن بالأمن والسلام. غير أنه في مؤازرة الجهات الأهلية اعتراف بفضل الشهداء، وتقدير لتضحياتهم ومكافأة معنوية، قبل أن تكون مادية، لأسرهم وذويهم، تجعلهم يشعرون بالفخر والاعتزاز دوماً، أن ابنهم مات في أشرف ساحة دفاعاً عنَّا كلنا. والحق يقال، سعادتي لا توصف عندما طالعت في الصحف الصادرة يوم الاثنين 9-9-1435هـ، الموافق 7-7-2014م، إعلان صاحب السمو الملكي الأمير الوليد بن طلال بن عبدالعزيز، عن تبرع مؤسسته الخيرية بربع مليون ريال لأسرة كل شهيد امتداداً لدعم القيادة الرشيدة، حفظها الله. كما سعدت إلى حد الدهشة عندما طالعت في جريدة الرياض، عدد الأربعاء 18-9-1435هـ، الموافق 16-7-2014م، ص 39، صورة لمواطن وفي مخلص، من مركز تبالة التابع لمحافظة شرورة، يدعى فايز بن محمد بن هديب الشمراني، وهو يزين زجاج سيارته بصور الأبطال الأربعة، شهداء الجمعة الأشاوس في اعتداء شرورة البغيض. فقد فاز فايز بتقديرنا واحترامنا، فنؤكد له جزيل شكرنا وفائق عرفاننا وامتناننا لحسن صنيعه. وكما يقولون: أول الغيث قطرة، أرجو أن تكون هذه المبادرة الجميلة الرائعة بداية لكرنفالات حاشدة مستمرة أبداً بالاحتفاء بالشهداء والاهتمام بأسرهم وذويهم. ومع تقديري لهذه الخطوة المباركة الكريمة، أجدد دعوتي لجميع رجال الأعمال من الجنسين، بسرعة الإعلان عن تأسيس (صندوق رجال الأعمال وسيداتها لدعم أسر الشهداء وذويهم) يساهم كل منا فيه بما تجود به نفسه، فلاهتمام بهم ومؤازرتهم ودعمهم مادياً ومعنوياً، هو أقل ما يمكن أن نقدمه لأولئك البواسل الذين دفعوا أرواحهم رخيصة، لكي ننعم نحن بالأمن والاستقرار، ونسعد بالحياة، ونستمتع برعاية دولتنا لنا. كما أناشد أهل كل منطقة لتنظيم فعالية سنوية حاشدة، يتم فيها تكريم أبناء الشهداء وتشجيعهم للمضي قدماً لتحصيل العلوم والمعارف وتأهيل أنفسهم وتدريبها، ليسيروا على نهج آبائهم الكرام. أما الجبناء الجاهلون، الذين باعوا دينهم ووطنهم بحفنة من الدراهم وتل من الأوهام، فنقول لهم بصوت واحد، مع الشاعر بندر بن فهد بن سعد بن عبدالرحمن آل سعود: حنا هل التوحيد في كل الأقطار دون العقيدة نشرب المر حالي ودون الوطن نرخص على الحق الأعمار ونفدي وطنا كل ما كان غالي هاذي حقيقة واقع الحال بالدار بأيامنا اللي ماضية والتوالي