في الوقت الذي يصب فيه(تيمورلنك) العصر:نتنياهو وزمرته الخارجة على كل ما هو إنساني، حممَ العذاب على رؤوس أطفال وعجائز غزة، وفي الوقت الذي تبث فيه شبكات الإعلام المرئي رؤوس الأطفال المقطوعة، وبطونهم المفتوحة، وجثث أمهاتهم وآبائهم المحروقة، نجدُ العالم الموسوم ب(الحر) يتلطف معهم تلطف الوالد على طفله الوحيد الذي جاءه بعد أن آيس من الإنجاب، وبلغ من الكبر عتيا!. إن ما تفعلونه أيها الساسة الغربيون اليوم من تأييد مطلق للنازيين الجدد في فلسطين المحتلة، ليس خيانة للتنوير فحسب، بل إنه رجوع إلى أسوأ فترات العصور الوسطى، وتمثيل صريح لأشد حالات موت الضمير الإنساني فبعد أيام من الولوغ الصهيوني في الدم الفلسطيني، يخرج البيت الأبيض ببيان يقول فيه:"على إسرائيل محاولة تجنب قصف المدنيين". هذا البيان ولوازمه السياسية والعسكرية، يأتي، أول ما يأتي، على مشروع الآباء المؤسسين لأمريكا من القواعد. فباستعمال(مفهوم الموافقة) لتحليل مضمون بيان البيت الأبيض، فإن أمريكا تقول لإسرائيل:"لا تتوقفوا عن العدوان، لكن حاولوا، مجرد محاولة، تجنبَ ضرب المدنيين، فإن لم تستطيعوا، فامضوا في ضربهم غير عابئين!"، فهل يُقبل مثل هذا الموقف من دولة تتزعم ما يطلق عليه اليوم"العالم الحر"؟ وهل يقبل مثل هذا الموقف المخزي من دولة شكل آباؤها المؤسسون نموذجا لتحدي الطغيان والاستكبار، حينما فروا منه باتجاه العالم الجديد، ليؤسسوا دولة بدستور يؤسس لحقوق الإنسان بالمطلق، بعيدا عن أصله وفصله وعقيدته ولونه؟ تالله إنه لموقف مخز يقطر عارا! وفي ذات السياق، نجد فرنسا التي شكلت ثورتها العالمَ الليبرالي الدستوري الديمقراطي الحديث، تمنع مظاهرات محدودة تندد بالعدوان النازي الإسرائيلي على أهل غزة المجردين من كل شيء إلا من رحمة الله! ضاربة بعرض الحائط منظومة(حقوق الإنسان والمواطن) التي أسستها هي، تلك المنظومة التي تنص في مادتها الثانية على أن لكل الناس حقوقا يأتي على رأسها(حق الأمن، وحق مقاومة الظلم والاستبداد)، كما تنص في مادتها الرابعة على أن(كل الناس أحرار، والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحدا، وتنص في مادتها الخامسة على أن(كل ما لا يحرمه القانون يكون مباحا)، والمظاهرات السلمية لا يحرمها القانون الفرنسي، ولا الغربي عموما؟ كما تنص في مادتها العاشرة على أنه(لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من الأفكار)، وتنص في مادتها الحادية عشرة على أن(حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان. فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية). أيعقل أن تلجأ دولة أسست للعالم الحديث بهذه المنظومة من الحقوق الدستورية، أن تمنع مظاهرة بسيطة في بعض شوارع مدنها للتنديد بعدوان إسرائيل؟ كيف رضيت فرنسا وهي موئل جمع كبير من فلاسفة ومفكري الأنوار الذين أسسوا فلسفة الحقوق المدنية الحديثة قبل ما ينيف على مئتي سنة، أن تأتي في العقد الثاني من الألفية الثالثة لتكفر بها دعما لطغمة من شذاذ الآفاق؟ وإذا نحن أردنا أن نحتكم إلى مصطلح(البراغماتية)، لنقول إن العالم الغربي يسُيِّر علاقاته وتصرفاته ضمن مصالحه فحسب، فأي مصلحة، وأي براغماتية ترتجى من الالتفاف على ما قامت عليه حضارته المعاصرة؟ وأين حدث ذلك الالتفاف؟ لقد حدث في عقر داره التي اجتمع فيها أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 26 أغسطس من عام 1789م ليقرروا تلك الحقوق؟ هذه ردة حضارية فظيعة لا تحتمل، خاصة وأنها تأتي بعد ما ينيف على مئتين وعشرين عاما من إقرار تلك الحقوق. وهي ردة تفرض علينا حتما إلى الرجوع إلى فلاسفة عصر ما بعد الحداثة الذين أخذوا على الحضارة الغربية أنها نكصت على عقيبها بعد أن تنكرت لمبادئ التنوير. نذكر من بين هؤلاء الفلاسفة(جاك دريدا، وجان فرانسوا ليوتار، وجيل ديلوز، وميشيل فوكو)، وجل فلاسفة مدرسة فرانكفورت، فكلهم انتقدوا التنوير بصفته من صنع الفاشية والنازية وكل مآسي العالم المعاصر، بعد أن انحرف عن خطه الديمقراطي الليبرالي الذي نشأ عليه ومن أجله، ومصداق ذلك في تعامل الغرب اليوم مع الهولوكوست الإسرائيلي، إذ لم تكتف دوله، أو قل: بعضها المؤثر، بالصمت المطبق على المحرقة الإسرائيلية ضد غزة وأهلها المستضعفين، بل حاولت تبرير، وبل وتشجيع هولاكو العصر:نتنياهو وزمرته الشيطانية على الاستمرار في الإبادة الجماعية ضد شعب أعزل، إلا من رحمة الله ثم عطف الأحرار حول العالم. يذكر الدكتور هاشم صالح عن الفيلسوف (جان فرانسوا ليوتار) قوله"إن الأساطير الكبرى للتنوير والمشروع الغربي الليبرالي والماركسي، قد سقطا وفشلا فشلاً ذريعا". بل وصل الأمر بمدرسة فرانكفورت، وفقا لصالح، "إلى اتهام العقل بأنه سبب كل الكوارث والمجازر التي حصلت في القرن العشرين"، وإلى الحديث عن" كسوف العقل أو أفوله النهائي بعد أن وصل بالغرب والعالم كله إلى هذا المصير". كما ينسب إلى(ميشيل فوكو) قوله:"إن التنوير الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال أيضا، فالحضارة التي شُيِّدت على مبادئ التنوير أوصلتنا إلى مجتمعات بوليسية مراقبة بشكل كامل من خلال أجهزة خفية تسيّر الأمور من خلف الستار أو الضغط على الأزرار". ينبغي العلم بأن فلاسفة ما بعد الحداثة قد ركزوا نقدهم على التنوير الغربي بسبب التجاوزات الأخلاقية للأنظمة السياسية الغربية، والتي كان لها دور كبير في تأسيس وتأييد الحركات والأنظمة الطغيانية حول العالم، وبسبب تخلق الفاشية والنازية في رحم الحضارة الغربية واللتين قادتا الغرب نفسه إلى أقذر حربين في التاريخ الإنساني. فلقد قادت الحرب العالمية الأولى مثلا، بصفته انحرافا مروعا عن خط التنوير، فيلسوفا كبيرا مثل (أوزفالد شبينجلر، توفي عام 1936م) إلى يؤلف كتابا سماه(انحلال الغرب) تنبأ فيه بسقوط الحضارة الغربية. مع ذلك، فلقد عاد(جاك دريدا) في أواخر أيامه للإشادة بالتنوير، وبما شيد على مبادئه من ديمقراطية ومدنية وبرلمانات في دول الحق والقانون، وحاول أن يوضح أن نقده للتنوير لم يكن يقصد به التراجع عنه وعن مكتسباته، إذ إن التراجع عنه يعني الانغماس مرة أخرى في أتون العصور الوسطى، وأنه كان يقصد تحديدا انحراف الأنظمة السياسية عن مبادئه التي تركز، أول ما تركز، على حقوق الإنسان بمطلقه، وخاصة الضعفاء والمساكين كما هم أهل غزة اليوم. ولا أجد في ما توحي به أحداث غزة اليوم إلا أن أستعيد نعي فلاسفة عصر ما بعد الحداثة للتنوير الغربي ومكتسبات الحداثة، بعد أن كفر بها ساسة الغرب بتشجيعهم لثلة من شذاذ الآفاق وعديمي الإنسانية ليعيثوا في غزة قتلا وسحلا وحرقا وصبا لحمم الجحيم على أطفال وعجائز قابعين في بيوت لا تقيهم قرا ولا حرا. كما لا مناص من الاعتراف بأن التنوير الغربي لم يعد جاذبا اليوم حتى لمن يعيشون تحت حكم نظم استبدادية، مادامت تؤمن لهم الحد الأدنى من الأمن! فهل هذا يا ساسة الغرب ما جاهد من أجله الآباء المؤسسون للتنوير، كديكارت وكانط وهيجل وجون لوك وروسو ومونتيسكيو وديدرو واسبينوزا وجماعة الموسوعيين وغيرهم، والذين تنعم بفضلهم اليوم شعوبكم في داخل أوطانكم بالحرية والحقوق الكاملة تحت ظل دول الحق والقانون؟ هل كافح أولئك الآباء التنويريون لكي تنعم شعوب بعينها وتتعذب شعوب غيرها، ليس لها ذنب سوى أنها ليست من العرق الأبيض الآري؟ أم أنهم جاهدوا وضحوا بحيواتهم لكي يؤسسوا حقوق الإنسان بمطلقه، بغض النظر عن هويته وعرقه ودينه، ولتكون هي العلامة الفارقة للعصور الحديثة؟ إن ما تفعلونه أيها الساسة الغربيون اليوم من تأييد مطلق للنازيين الجدد في فلسطين المحتلة، ليس خيانة للتنوير فحسب، بل إنه رجوع إلى أسوأ فترات العصور الوسطى، وتمثيل صريح لأشد حالات موت الضمير الإنساني، فهل تستيقظون من رقدتكم، لترجعوا إلى مبادئ التنوير التي لولاها لكنتم اليوم تقتلون بعضكم بعضا على الهوية والدين والمذهب؟