يظل محمد أكوناض اسما مميزا في خياره الإبداعي، بدءا من اشتغاله على ترسيخ الأمازيغية في الفضاء الكتابي وحتى تكريسه لاسمه الروائي عبر هذا الخيار اللغوي وجسده في كل رواياته التي تلقى إقبالا ملفتا.. هنا نحاوره حول هذه التجارب وغيرها.. فالى نص الحوار: • هل تعتقد أن للأدب، والرواية على وجه الخصوص، دورا في إغناء الثقافة الأمازيغية؟ - للأمازيغ تاريخ عريق وثقافة غنية وإسهامات ضخمة في مسيرة الحضارة الإنسانية في شتى ميادينها، فقد نبغ منهم رجال ونساء كثر عباقرة، ليس فقط في الماضي البعيد، ولكن أيضا في العهود القريبة جدا، وفي العصر الحديث أيضا، ولكن المفارقة أن ذلك لم يجد الأمازيغ شيئا، فهم اليوم مبخوسون في بلدانهم، ضئيل شأنهم، قلما يعترف لهم بهويتهم ولغتهم في البلدان التي هي أصلا بلدانهم، ولذلك أسباب تاريخية معلومة، ولعل من أهمها أنهم لم يعنوا بلغتهم وبآدابهم، فرجالاتهم عندما أبدعوا، فعلوا ذلك باللغات الأخرى، فالأديب الأمازيغي القديم «ترونتيوس أفر» مثلا، أديب مسرحي أبدع في الكتابة المسرحية وهو مازال شابا، ولكنه كتب باللاتينية، و«أبوليوس المادوري» أديب كبير وفيلسوف، أول من كتب الرواية في العالم، لكنه كتب باللاتينية، والقديس «أوغسطين» رجل الدين الكبير، من العظام الذين أسسوا المسيحية، ترك عدة مؤلفات، من بينها: «مدينة الله»، و«الاعترافات» وغيرها. إن هؤلاء مجرد عينة من أمازيغ ما قبل الفترة الإسلامية الذين أثروا الفكر الإنساني، وفي الفترة الإسلامية أضعاف هؤلاء، هم أيضا اضطلعوا، ليس فقط بالكتابة في مجال الشريعة الإسلامية، ولكن أيضا في العناية باللغة العربية من نحو وصرف ومعجم وغير ذلك، ثم في مجال الفكر كالفلسفة، والتاريخ، والرحلة، وغيرها. سردت هذه الأمثلة لأبين أن الضيم الذي يحس به الأمازيغ اليوم في بلاد تامازغا كلها، لا يخفف منه إن كان لهم رجال ونساء كبار رفعوا من قيمة بلدانهم، بل ما أكثر ما يكون الإرث الفكري لهؤلاء وبالا على جهود أبنائهم اليوم في استعادة هويتهم ولغتهم، فيقال لهم مثلا: لماذا تريدون أن تتخلوا عن صنيع أجدادكم الذين لم يبالوا بهويتهم، وتخلوا عن لهجاتهم التي تريدون اليوم بعثها؟ فلو كانت لها فائدة ما لعني بها آباؤكم من قبل. ولذا، عندما ظهرت الحركة الأمازيغية في بلدان «تامازغا»، أدرك أصحابها أن لا سبيل أمامهم لاستعادة هويتهم إلا بالرجوع إلى لغتهم الأصلية وآدابها؛ لأنهم أدركوا أن ما أنتجه الآباء والأجداد باللغات الأخرى إنما يغني التراث الفكري لتلك اللغات، ولم يبق للأمازيغ الذين يرفضون التخلي عن هويتهم إلا ما أنتج بلغتهم. وبما أن الكثير من الآداب الأمازيغية قد انقرضت لأنها آداب شفوية تفنى بفناء أصحابها، فإنهم حاولوا من ناحية، تدوين بعض ما تبقى منها، ومن ناحية أخرى، فتحوا مجالات الإبداع أمام اللغة الأمازيغية حتى تنتشل من أسر الشفوية، وحتى تنفتح على الأجناس الأدبية الحديثة. وهكذا شرع الأدب الأمازيغي الحديث في فرض نفسه على الساحة، وأصبحت تنبجس النصوص الأولى التي يمكن اعتبارها ذات طبيعة تأسيسية في الساحة الأمازيغية. ورغم العقبات الكأداء التي واجهت هذا الأدب عند انطلاقته الأولى، فلقد بدأ يفرض نفسه يوما بعد يوم، ويحوز قناعات بعض الذين كانوا من المتشككين في جديته وجدواه، وكلما تطور هذا الأدب بامتداداته خاصة في مجال السينما، والأغنية، والمسرح، ولامس القضايا الراهنة للإنسان الأمازيغي، اكتسب مصداقية أكثر، وضرب بجذوره عميقا في تربة مجتمعه. والرواية جنس أدبي حديث بدأ يتأسس الآن في تربة الأدب الأمازيغي، ولكن برغم ذلك، فهذا الجنس الأدبي ليس غريبا عن الثقافة الأمازيغية؛ لأن الرواية جنس سردي، والأمازيغ معروفون في التاريخ بتراثهم السردي الغزير، اعترف بذلك كبار المفكرين مثل «أرسطو طاليس»، حسب شهادة الأستاذ محمد شفيق، والمؤرخ الكبير ابن خلدون وغيرهم. وعندما دخل المستعمرون الأوروبيون إلى شمال إفريقيا راعهم هذا التراث، فدونوا منه الكثير. ورغم أن الغايات التي جعلتهم يفعلون ذلك ليست دائما سليمة، ورغم أن أحكام بعضهم يرشح منها استعلاء أوروبي واضح، فإنهم حفظوا لنا جزءا مهما من تراثنا، ولولاهم لانقرض كما انقرض الكثير منه قبل ذلك. من ناحية أخرى، إن أول عمل أدبي قريب من جنس الرواية كتبه أمازيغي، يتعلق الأمر بـ«الحمار الذهبي» الذي ألفه «لوكيوس أبوليوس» الماوردي كما سبق أن ذكرت، وقد عاش هذا الأديب المفكر ما بين 125 و179م. والرواية في الأدب الأمازيغي الحديث إنما بدأت الآن تتأسس، وتكمن أهميتها بالنسبة للأدب الأمازيغي في كونها إضافة جديدة للأجناس الأدبية السردية التقليدية في الأمازيغية التي لم تعد تبدع اليوم، فالعصر لم يعد عصر الملحمة، والحكاية والأسطورة مثلا، ولكنه عصر الرواية والقصة.. فالأجناس الأدبية الجديدة كالرواية وغيرها هي التي تدخل الأدب الأمازيغي في سلك الآداب العصرية العالمية، وتؤهله ليتفاعل مع قضايا العصر، وهذا يقتضي أن تطور اللغة، وتستحدث مصطلحات ومفاهيم جديدة لم يكن محتاجا إليها في العصور السالفة. • هناك أسباب كثيرة تدفع المرء إلى الكتابة، وكثير من عمالقة الأدب قدموا أجوبة مختلفة عن ذلك، لماذا يكتب محمد أكوناض؟ - أعتقد أن من يكتب شغفا بالكتابة، يكتب لتحقيق ذاته أولا، يحس أن له شيئا فريدا، أفكارا، أو رؤى جمالية للوجود، أو مبادئ يهوى التعبير عنها، مبادئ مقترحة، أو مؤيدة لأخرى سابقة، أو معارضة فيعبر عنها كتابة. والتعبير حاجة إنسانية، تختلف أشكاله فقط، وتعتبر الكتابة من بين أشكاله الراقية. والذين يكتبون بالأمازيغية حاليا يكتبون أيضا لقضية يرونها عادلة، تتمثل في رد الاعتبار للغة الأمازيغية. • إذن فمحمد أكوناض يكتب لرد الاعتبار للغته وثقافته الأمازيغيين؟. - تماما. • يتم الحديث الآن عن موت الشعر في الشرق والغرب، ويتم اللجوء على مستوى التلقي إلى الرواية، هل اختيارك للسرد الروائي يصب في هذا الاتجاه؟ - ينبغي الإقرار أولا بأنني بدأت بكتابة الشعر، ولدي ديوان شبه مكتمل ينتظر الإصدار، ثم انتقلت إلى الترجمة، إذ ترجمت في المجال السردي لأبوليوس مؤلفه المسمى: «الحمار الذهبي» تحت عنوان «أغيول ن وورغ» أصدره المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وخمس حكايات من الأدب الشعبي الروسي المترجم إلى اللغة الفرنسية. أما في الميدان الحقوقي والقانوني فقد ترجمت مدونة الأسرة تحت عنوان: «أصادوف ن توجا»، إصدار لمنظمة تاماينوت، ثم الإعلان العالمي للشعوب الأصلية تحت عنوان: «أبريح أماضلان ن ئمادانن ئمزوورا» إصدار كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية بالجنوب المغربي، «تامونت ن ئفوس»، ثم ثلاث روايات هي: تاواركيت د ئميك- ئجيكن ن تيدي- تامورت ن ئلفاون، علاوة على مجموعة من القصص القصيرة والمقالات بالأمازيعية. يتضح من هذا إذن أن عامل التلقي ليس هو المحدد لدي، فللأدب الأمازيغي المعاصر ظروفه الخاصة به وتتمحور كلها حول الصراع من أجل إثبات الذات أولا، وتصعب مقارنته بالآداب الممدرسة التي فرضت نفسها منذ زمن طويل، وهي محمية، سواء في بلاد الأمازيغ أوفي بلدانها الأصلية. • وماذا تقول عن الشعر الأمازيغي، ألا يجب على الأمازيغ أن يبدؤوا من حيث انتهى الآخرون؟ - الشعر الأمازيغي عريق كذلك، وأغلبه مازال شفويا، والأمازيغ عرفوا الشعر الملحمي بجانب الشعر الغنائي، فقد تحدث محمد المختار السوسي عن ملحمة أمازيغية تصف دخول العرب إلى شمال أفريقيا، زمن الفتوحات الإسلامية لنشر الدين الإسلامي عند الساكنة المحلية، وظهرت ملحمة «دهار وباران» بعد معركة أنوال التي خاضها أهل الريف بزعامة البطل محمد بن عبدالكريم الخطابي، ومؤخرا كتب الشاعر «علي د اهمو أداسكو» قصيدة طويلة في أكثر من خمسة آلاف بيت شعري وهي ذات نفس ملحمي أسماها «تاسماكالت»، «وصية حجو لحفيدتها تودا». إلا أن الشعر الغنائي هو الوفير سواء في صيغته الشفوية أو المكتوبة، فلقد صدر منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم ما يربو على مئة وخمسين ديوانا شعريا في بلدنا المغرب. تتفاوت هذه الدواوين من حيث نضج التجربة الشعرية لدى أصحابها ومن حيث انتمائهم إلى المدرسة التقليدية ذات المرتكزات الشفوية، أو المدرسة الحديثة ذات المضامين الجديدة، وغير المتقيدة بالعروض الشعري القديم. وقد لعب الشعر الأمازيغي، ومازال، دورا أساسيا في المجتمعات الأمازيغية عبر العصور، وحرك الجماهير العريضة حاملا للقيم النبيلة التي تحكم المجتمع، فأشعار «سيدي حمو طالب» التي تنضح حكمة مازال الناس يتداولونها فيما بينهم إلى يومنا هذا، وأغاني الرايس بلعيد، وعمر واهروش، ومحمد البنسير، ومحمد رويشة، وفاطمة تاباعمرانت وغير هؤلاء، حركت ومازالت تحرك الملايين من الناس، ليس فقط لأن لهؤلاء حناجر تبدع الألحان العذبة التي تسحر الجماهير، ولكن أيضا لأنهم يعرفون كيف يعبرون، أو كيف يختارون من الشعر ما يعبر بصدق وجمالية عن قضايا الناس. وسنبخس هؤلاء، ونزري بالشعر الأمازيغي ذاته إن اعتقدنا أنه سيبدأ الآن. يمكن أن نتحدث عن انطلاقة جديدة لهذا الشعر بعد أن أصبح يدخل إلى مجال الكتابة بعد أن كان في أغلبه شفويا، والدخول إلى مجال الكتابة سيمكنه من أن يكون له متلقون كثر، وسيساعده ذلك على أن يتطور أكثر، وبما أنه يمتد من أصالة عريقة تمتد لآلاف السنين، وليس وليد اليوم، فإنه إضافة جديدة إلى التجربة العالمية في هذا المجال. • يعتبرك الأمازيغ رائد الرواية الأمازيغية بدون منازع، هل أنت راض عن إنجازاتك الأدبية؟ - تجربة الأدب الأمازيغي في مجال الكتابة حديثة لا يتجاوز عمرها ثلاثة عقود، والتجربة الروائية الأمازيغية إنما بدأت قبيل الألفية الثالثة، فنحن مازلنا في مرحلة التراكم في هذا المجال، لم ندخل بعد إلى مرحلة التقييم والنقد، وهذه الأخيرة لا تبدأ إلا بعد أن يستتب هذا الجنس الأدبي الحديث، والنصوص المبدعة نصوص تأسيسية، والأحكام التي تصدر بشأنها ينبغي أن تؤخذ في الظروف التي أحاطت بها، وإذ أشكر الأساتذة الذين كتبوا دراسات عن بعض أعمالي الروائية، خاصة العمل الأول: «تاواركيت د ئميك»، والطلبة الباحثين الذين درسوها أو اختاروها مواضيع لأطروحاتهم، فإنني أعمل جاهدا من أجل أن لا أرضى عن نفسي ذلك الرضاء الذي يحول بيني وبين أن أتجاوز نفسي، وآتي بالأحسن.