من الآليات الناجحة في دورة التبعية الصحوية التنظيم الدقيق، وضبط المنتسبين إليه وفق إدراج خاص يعتمد على المرحلية، إذ لا يمكن الانتقال من مرحلة إلى أخرى على مستوى الأدوار التي يقوم بها الأفراد حتى يتأكد من نجاحهم في ما أوكلت إليهم مهمات، ولن تتمكن القيادة من ذلك إلا بعزل العضو المنتمي عن المجتمع الطبيعي، ووضعه تحت الرقابة الدائمة والصارمة، وتبدأ في مراحلها الأولى من اختبارات عدة، أولها مدى تقبله للانسياق بطواعية عمياء لحراك الجماعة، يتبع ذلك نبذ أية أسئلة ترد على الذهان وعدم السماح للجدل مهما كان مضمونه، والامتثال لروح الجماعة قلباً وقالباً، ومتى توافر بالعضو المنتسب ذلك يقترب من مباركة القائد بضمه إلى مجموعة عمل يولى عليها قائد منهم، لا يفترقون عن بعضهم البعض إلا للنوم، لضمان عزله نهائياً عن تأثيرات المجتمع الطبيعي كالارتباط بالتزامات الأهل ومرافقتهم في حلهم وترحالهم، والاستسلام إلى وسائل الترفيه الطبيعية ومنها الإعلام، ما يعد خطراً يتهدد العضو في ما لو ترك من دون حصار ما يؤدي إلى انسلاخه من ربقة الجماعة، لذلك تتخذ صفة ملتزم على العضو، وهي الصفة المستحدثة في القاموس الإسلامي، معنى خاصاً وعميقاً لا يشبهه سوى معنى الالتزام لدی الشيوعيين، وربما تكون مشتقة من مبادئ العمل الشيوعي الذي يفرض على الرفيق التزامه بقوانين الحزب، فأصبح الأخ هو المعادل الموضوعي للرفيق، الملتزم بمبادئ وأهداف وغايات حزب يحاول فرض نفسه في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، لذلك فإن السياسة المتبعة لدمج هؤلاء الشباب في عمل حركي موحد وتمييزهم هو بث صورة داكنة للمجتمع وإيغار صدورهم ضده، وتهيئة أرواحهم بطاقة مضادة لعدو محتمل، وللإمعان في الضغينة تم وضعهم في خانة الغرباء المستهدفين، ليبتوا تحت ضغط هائل يتقلبون على جمره ليلاً ونهاراً ناشدين الخلاص الجميل المزروع في أذهانهم وبين ضلوعهم، في مرحلة تالية تضاعف المسؤولية من خلال تحميلهم عبء رسالة أممية ثقيلة ولديهم أدلة جاهزة وأمثلة مؤثرة، هذا الضغط ولد سلوكاً معادياً للمجتمع وعلى رأسه البيت الذي لم يسلم من تصرفات رعناء قاموا بها كتكسير أجهزة التلفاز أو الراديو، وتأكد لهم من خلال ردود الفعل الطبيعية لكل حماقاتهم أنهم حقاً هم الغرباء، وأن المجتمع يعيش عصره الظلامي أو بمعنى أدق جاهلي وتخليصه منها يقع ضمن الغايات السامية للحراك الصحوي، ويكمن المعنى الحقيقي المغيب عن أذهان كثير من الأعضاء الذين لم يصلوا إلى درجات قيادية معينة أن ما يغرسه هؤلاء القادة ما هو إلا استعداء، ليس للمجتمع فحسب بل لكل مؤسسات الوطن، بما في ذلك المؤسسات الشرعية منها هيئة كبار العلماء التي لا يمكن أن يروها خارج إطار المداهنة للسلطة، وقد تحقق لاحقاً ما خططوا له، واتضحت لغتهم بعدما استحكموا على منافذ التوجيه الاجتماعي. بدت مهمة قادة «إخوان السعودية» سهلة جداً، إذ تغلغلوا كالداء اللذيذ في جسد المجتمع البسيط من خلال تنفيذ دقيق وصارم لأوامر شيوخهم، من أدواتهم التي بدأت باكراً مع العمل الصحوي المراكز الصيفية التي كانت تقام في المعاهد العلمية ومدارس وزارة المعارف، وتعد هذه الانطلاقة الأولى في خطة دقيقة ومحكمة لاختراق التعليم العام، إذ تمكن بعض المعلمين ذوي الاتجاهات الدينية من المشاركة فيها، وبما أن خطة العمل واضحة مع القائد أو المسؤول عن المركز يكون هو المتحكم الأول والأخير بخطة العمل، وليس على العاملين الآخرين سوى الانصياع التام لتوجيهاته، ولكي تمنح الصلاحيات تدريجياً عليه تنفيذ الأوامر بإحكام، ليتذوق بعدها حلاوة القيادة وإعطاء الأوامر لفصيل من الشباب الخاضعين، ومن خلال هذه الخطة المحكمة استطاعوا التقاط الشباب الصالحين للعمل الحركي، يتوج هذا الترشيح برحلة برية أو عمرة رمضانية، هناك تتضح الأدوار، وتدخر لعمل تال عند بدء الدراسة من خلال جماعات التوعية الإسلامية، أو أي نشاط لا صفي يحتمل كل شيء إلا القراءة والاطلاع المحكوم بتوجيهات القائد، من أدواتهم المخيمات الصيفية البرية التي تنعقد علی مدی أسابيع، وقدرتهم علی تقبل الأوامر مهما كانت، ولهم في ذلك طرق مقننة لا تشبهها سوى الثكنات العسكرية، منها حراسات المخيم الليلية، وتنظيم هجمات اختبارية يقوم بها بعض الشبيبة من داخل المخيم وخارجه، ويتأذى منها بعضهم، أذكر أنه أحد تلك المخيمات البرية التي شاركت فيها، واختير له موقع بعيد عن مواقع الرحلات البرية التي يقصدها عادة عامة الناس، وهناك كان الاختلاف وصناعة الجسارة، والروح الشبابية، الجسارة كانت تعني الإقدام علی تنفيذ أوامر المشايخ، والعمل الجماعي مهما كلف الأمر. أذكر في إحدى الأمسيات عصفت بنا رياح شديدة، كادت تسقط الخيام، ثم عقبها هطول أمطار غزير مصحوبة ببرق ورعد شديدين، فتنادت همة الشباب ومن ورائهم صوت جهور انطلق من حنجرة أحدهم مردداً شبابنا هيا إلى الجهاد هيا اصعدوا شوامخ الجبال... إلخ، يوقد بها همة الشباب التي تجاذبوها بلا تردد ولا خوف من الصواعق والشهب اللامعة فوق رؤوسهم، حتى أنجزوا مهمتهم على أكمل وجه، هذا عدا الأعباء الكثيرة التي تبدأ منذ ساعة الفجر الأول وحتى مغرب الشمس، عندها تكون همة الشباب بدأت تتلاشى، فلا تعد قادرة على الإنصــــات لشيخ أو محدث ينتدب لمحـــاضرة أو ندوة، فــــلا تجــــد الشباب إلا وقد سقطــــت رؤوسهم بين حجورهم يغطون في نوم عميق، يوم يحين موعد الفراق تنساب من قلوبهم مشاعر الفقد وتنحدر الدموع حرى من مآقيهم وبهذا تكون توطدت عری الأخوة التی لا يمكن أن تنتقض ما دامت الحلقات في ما بينها مرتبطة بالتواصل المخطط بإحكام مهما بعدت الشقة ليصبح لهم في كل مدينــــة وهجـــرة إخوان إخــــوان في الله، هذا التشريك الأول بينهم جعلهم قادرين على إحداث تأثير كبـــير داخل طبقـــات المجتمـــع وأطيافه، خصوصاً عندما تمكـــن شبيبة الإخوان من منــــابر الجوامـــع، وجاءوا بصياغة بلاغية مختلفة زرعوا داخلها قيمهم، ولبلاغية الخطاب الإخوان وقفة تالية.