يرى بعض المؤرخين أن من أهم أسباب تشكيل المجموعة الاقتصادية الأوربية في عام 1951م التي تطورت للاتحاد الأوربي الذي نشهده اليوم، الأهوال التي شهدتها أوروبا بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية التي فصل بينهما ما يقارب 30 عاماً فقط. ويرى المؤرخون الأوروبيون أن الحرب الأولى هي أم الشرور التي أصابت أوروبا لأنها هي التي قادت للحرب الثانية، والحروب الإقليمية التي تلتها. فالحروب تتوالد وتتناسخ بشكل سرطاني إذا لم تزل الظروف التي سببتها وتسهم في تواصلها. وقد قتل في الحرب العالمية الأولى 37 مليون إنسان معظمهم أبرياء، وتمت إعاقة مائة مليون آخرين. أما الحرب الثانية فقد بلغ عدد ضحاياها 60 مليونا ولم يكن بالإمكان إحصاء الإعاقات والخسائر الأخرى. التطرف القومي، وانتشار نظريات التفوق العرقي والاجتماعي، والتنافس الاقتصادي والسياسي من أهم دوافع هذه الحروب المدمرة. فقد كان تنافس الإمبراطورية النمساوية المجرية مع روسيا وصربيا، ودعم ألمانيا للإمبراطورية النمساوية، وخوف بريطانيا وفرنسا من بروسيا المتوحدة الصاعدة، والتنافس على المستعمرات للحصول على المواد الخام في التصنيع أهم أسباب الحرب الأولى. وأعادت الحرب الأولى نفسها في الحرب الثانية لبقاء أجواء الصراع والتنافس دون تغيير. هاتان الحربان دمرتا الكثير في أوروبا التي كانت مركز العالم آنذاك وأزاحتها عن موقع قيادتها للعالم، وأدت لظهور الشيوعية في المعسكر الشرقي وتقسيم ألمانيا، وانتقال مركز القوة لأمريكا التي كانت مجموعة من مستعمرات أوربية فيما سبق، وتحولت أوربا إلى كيانات معتمدة على أمريكا في حمايتها واقتصادها. وعاش العالم رعب ظهور حرب عالمية ثالثة لأكثر من خمسين عاماً، ودخل العالم في سباق مخيف للتسلح، ولازال العالم غير بعيد عن نشوء نزاع روسي - غربي مدمر. والحرب أفقرت أوروبا اقتصاديا، وتسببت في هجرة العقول الأوروبية لأمريكا وروسيا، وحملتها مصاريف هائلة لإعادة البناء اضطرتها لطلب العون من أمريكا في مشروع مارشال. وانقلبت الأجواء الفكرية من تمجيد المثل العليا، والدين، والأخلاق إلى تشجيع العبثية، والدادائية، والأناركية، والعدمية، والانحلال. وانتشر الجنون والإلحاد والأمراض النفسية بشكل غير مسبوق. لكن حمي خوض الحروب انتقلت لأمريكا، ويقال إن الآثار غير المنظورة لحروب فيتنام والخليج على المجتمع أكبر وأبعد أثراً مما هو معلن، وأنها السبب في تحول أمريكا من منارة للحرية فيما بعد الحرب إلى دولة شبه بوليسية هاجسها الأول والأخير هو الأمن. والعرب، الذين وصفهم أعداؤهم بأنهم شعب لا يقرأ، وإن قرأ لا يتدبر، لم يعوا دروس الحروب لدى الآخرين، ومنها الحربان العالميتان ولم يقدروا شرور الحرب حق تقديرها. ومصائب الحرب عند أناس يراها بعض المترصدين والمغرضين فوائد، فالحرب تقلب المجتمع طبقيا، وتبرز طبقات جديدة من المستفيدين والمنتفعين. ولم يدرك العرب موقعهم ولا علاقتهم مع الغرب حق تقديرها. وكما ذكر أدوارد سعيد، نظرت الحضارة الغربية بعين الريبة للحضارة المجاورة لها عقدياً وجغرافيا، فهي تخشى وتعادي الحضارة العربية الإسلامية أكثر من الحضارة البوذية في شرق آسيا، أو الشنتو في اليابان لأن الحضارة الإسلامية آخر الديانات الموحدة وترى نفسها مصححة للديانات الموحدة السابقة، اليهودية والمسيحية، اللتين يدين بهما الغرب. وهذا هو سبب علاقة الارتياب الأبدي الذي ينظر به الغرب اليهودي - المسيحي للمسلمين. والغرب يعرف أن الإسلام لن ينهض إلا بنهوض مركزه العربي حيث توجد المقدسات الإسلامية ولغة القرآن والسنة. ومعظم الحروب المدمرة تبدأ من أفكار أو معتقدات شعبوية يروج لها سياسيون انتهازيون بين العامة لمصالح خاصة بهم، فيعتنقونها دونما تفكير ملي فيها وفي عواقبها، وتشكل هذه الأفكار عقيدة الحرب لديهم فيما بعد. وأظهرت الأبحاث التي أجريت بعيد الحربين العظميين أن المقاتلين الفعليين في الحرب غالبيتهم من ذوي الذكاء والفكر المنخفضين، وأن من يدير أمور الحروب حقيقة هم 10% من الساسة والمفكرين ورجال الدين، وهذه العشرة في المائة هي الفئة المستفيدة من الحروب وهي لا تشارك فعليا في الحرب ولا تطالها شرورها. أي أن الحرب يموت فيها الضعفاء فقط. وعندما سئل كارل كراوس الصحفي النمساوي عن أسباب الحروب في رأيه، أجاب: الدبلوماسيون يكذبون على الصحفيين ثم يصدقون هذه الأكاذيب عندما يشاهدونها مطبوعة في الصحف. فالحرب تستند في كثير من الأحيان إلى الإعلام والدعاية والأكاذيب لتبرير الحرب للجماهير، بحيث تظهر العدو شيطانا خطيرا يتربص بها، وأنه ناقص الأهلية والإنسانية مما يستوجب قتاله وقتله. وهي كذلك تحقن قلوب المشاركين في الحرب ليس بكره الأعداء بل والمبالغات في تقديس الذات، وأهمية الشجاعة والتضحية دونما ذكر لويلات الحرب وشرورها. وكما يقال، لو وظفت الدعاية التي تحمس الناس للحرب للدعاية للسلام لما كانت هناك حرب. والحرب ليست فقط قيم الوطنية والشجاعة التي تسوق عادة للعامة البسطاء، بل هي انتشار الوحشية والاستعداد للقتل، وانعدام الأمن، وانتشار الأمراض الفتاكة العضوية والنفسية، والاستهتار بحياة الآخرين واسترخاصها، واختفاء القيم الاجتماعية النبيلة، وتفشي الفقر والدمار الاقتصادي. والحرب عادة لا تتوقف وإنما تلد حروبا أخرى؛ لأن الدول الخارجة من الحرب تفشل عادة في إعادة بناء ما دمرته الحرب وتحاول أن تستعيد ما خسرته بحروب أخرى. وهي تتسبب في إظهار الأحقاد القديمة الدفينة، وإعادة صياغة المعادلات الإقليمية التي عادة ما تستغرق وقتاً طويلاً للاستقرار. فحرب الخليج الأولى التي كانت دولية مبررة بتخليص الكويت دفعت أيضاً لحصار العراق وإضعافه، مما سول للأمريكان أن يشنوا حربا منفردة على العراق لاحتلاله للاستيلاء على ثرواته، وتقسيمه وليس لتخليص دولة أخرى. فتم احتلال العراق ودمر كل شيء فيه وهرب علماؤه، وهدمت جامعاته، وتوقف التعليم فيه، ثم وجدت أمريكا نفسها غير قادرة على إدارة الفوضى التي أحدثتها، فخرجت وخلفت فراغا وجدته إيران سانحاً للتوسع. الخلاصة أن الحرب الأولى على الكويت خلفت ما لا يقل عن خمس حروب أخرى. وإيران لا تبرر توسعها في العراق بمبرراته الحقيقية: التوسع، والسيطرة، والفكر الإمبراطوري الفارسي، بل تبرره بشعارات دينية ومذهبية يذهب ضحيتها البسطاء. ثم يأتي من يسأل، من أين أتت داعش وأخواتها وبناتها؟ الحرب هي أم كل الدواعش، هي أم الفقر، الجهل، الوحشية. فهي تخلق أجواء منفلتة من كل القيم، ومن كل شيء ذي قيمة ماديا كان أو أخلاقيا. والبعض ينظر لهذا الانفلات على أنه فرصة سانحة لممارسة غريزته كوحش متجرد من كل القيم الإنسانية بعيدا عن الأعين وبعيدا عن القانون. وتصل الحرب لأبشع أطوارها عندما تحاط بالقدسية الدينية، فيقتل المتحاربون بعضهم البعض ليس لأسباب دنيوية أو اقتصادية تتوقف عند تحقيقها المعارك، بل تكون الحرب لأسباب عقدية سماوية لا تتوقف معها الحرب حتى يقضى طرف منها على الآخر. وعندما تسأل عن المستفيد من الحرب فهو بالطبع غير المتقاتلين، فمن يدفع للحرب يكون عادة بعيدا عنها. فلم يشهد التاريخ أن كبار القساوسة، أو كبار الملالي، أو كبار الأئمة ماتوا في الحرب إلا في حالات نادرة. وفي كثير من الأحيان يكون المستفيد طرفاً ثالثاً من الحرب يتحين الفرصة للانقضاض على أطراف الحرب المنهكة. وما نشاهده في منطقتنا اليوم هو أن الغرب المستفيد الأكبر منها، فهو يبيع الأسلحة التي تقتل وتدمر، ثم يبيع الأدوية وأدوات إعادة الإعمار، وهو ببساطة يجرد المنطقة لقرون قادمة من كل مقومات بقائها وازدهارها. ويضاف لذلك أن الحرب تتسبب في هروب رؤوس الأموال لبنوكه، وهروب العقول القادرة على العطاء والتعمير لجامعاته. فأمريكا، وبريطانيا، وفرنسا جنست أفضل العقول العراقية من أطباء ومهندسين وعلماء أنفق العراق ملايين الدولارات على تعليمهم كثير منهم في جامعات غربية. هذه حقيقة الحرب وللأسف، لكن من يعي؟ ومن يتعظ؟ وهل سندفع بمنطقتنا لمئات السنين للوراء للحقبة التي نستقي منها حكمتنا في إشعال الحروب؟ والله نسأل في هذه العشر المباركة من رمضان أن يجنبنا شرور الحروب ويعيد لإخواننا في الإسلام رشدهم وبصيرتهم في إيقاف هذا الخطر الداهم الآخذ في الاتساع.