يقول إميل سيوران: "بالنسبة لي مأساة الكاتب تكمن في حيازته للشهرة وهو شاب.. إنه أمر بالغ السوء، يعرقل كل شيء لأن معظم الكتّاب.. عندما يكونون معروفين وهم شباب نسبياً يكتبون من أجل جمهورهم.. في رأيي يجب أن يكتب الكتّاب من دون التفكير في الآخرين.. ليس عليك أن تكتب من أجل أحد.. فقط من أجل نفسك.. وليس لأحد أن يكتب كتاباً من أجل أن يكتب كتاباً فقط.. فهذا لن تكون له صلة بالواقع.. وسيكون مجرد كتاب.. أما أنا فكل ما كتبت كتبته للهرب.. للتخلص من حالة إحساس بضيق أو اختناق.. لم تكن مسألة إلهام.. كما يقولون.. كان نوعاً من التحرر.. ولكي أكون قادراً على التنفس.."! تأسرني فلسفة هذا الفيلسوف الروماني الذي عاش في الفترة من/م متناغماً مع إيقاع الطبيعة، متمليّاً الخضرة.. ومنصتاً إلى حكاوي الرعاة.. ألف كتاباً إلى جانب المخطوطات التي عثر عليها بعد وفاته..! في بداية دراسته للفلسفة عرف لأول مرة عوارض المرض الذي سيرافقه كثيراً وهو "الأرق" وقد عانى منه كثيراً حتى فكرّ في الانتحار ولكنه استفاد منه وحول ليالي الأرق إلى وسيلة للمعرفة.. حيث ألف كتابه الأول "على ذرى اليأس"وهو في الثانية والعشرين من عمره.. ثم انتقل إلى برلين وأقام فترة للدراسة ثم تفرّغ لتدريس الفلسفة وعاد بعدها إلى بوخارست بعد أن تحصل على منحة دراسية في معهد بوخارست الفرنسي.. قوبلت كتبه بحفاوة نقدية ولكن ظل توزيعها محدوداً جداً طوال عاماً ربما لأنه كان نقيض سارتر سيد المشهد وقتها.. تميز أسلوبه بلغة يصعب اختزال نصوصها وتصنيفها.. ويمكن قراءة ما يكتبه كنص شعري والبعض الآخر يُقرأ كنص فلسفي عميق.. وفي كتابه الشهير"رسالة في التحلل"يضيف لنصه لقب المؤرخ. وهو كتابه الرابع والذي صدر ضمن سلسلة كتب الجيب ذات الانتشار الواسع.. ورغم شهرته ظل سيوران يمتنع عن الجمهور ويرفض الجوائز ويبتعد عن وسائل الإعلام مكتفيا بالكتابة وظلت ترجماته العربية محتشمة وغير قادرة على إيصاله بالشكل الملائم.. ولعل أول كتاب ترجم له للعربية هو كتاب "المياه كلها بلون الغرق".. بقي جانب مهم في مسيرته ويرى النقاد أنه أثرّ كثيراً في كتاباته وفي حياته وفي نظرته للعالم وعلاقته مع الآخرين.. وقابله هو بالتكتم والإنكار وهو علاقته "بالفاشية" وبهتلر شخصياً.. كان في الثانية والعشرين وقد برر مواقفه في أكثر من مناسبة بالطيش وعدم النضج.. إلا أن نصوصه التي نشرت بعد موته تشير إلى غير ذلك! في النص في بداية المقال يشير الكاتب إلى أنه كتب من أجل الهرب والتخلص من حالة الضيق الذي شعر به وليس استجابة لحالة الإلهام التي تداهم الكتّاب عادة أو المبدعين.. كتب كنوع من التحرر لأنه لم يكن يستطيع أن يتنفس.. وأعتقد أنّ هذا الوصف منصف ودقيق.. وبالذات في الكتابات الإبداعية والنصوص.. تشعر بحاجة ماسة للكتابة.. تختنق من المكان والوجوه.. لاتكاد تلامس قدماك الأرض.. وأنت تقف عليها تسكن في رياح تقتلعك من مكانك.. رغم أنك في مكانك أيضاً ولكن خارج التغطية.. تختنق بصمتك وهو أسوأ أنواع الاختناق.. تبحث عن الملاذ.. الهروب.. العودة للحياة من داخلها وليس من خارجها.. تكتب تحتمي بالكتابة.. لتُحسّن الرؤية التي فقدتها.. ولتستعيد أنفاسك المتقطعة.. ولتحول لحظات الفوضى الداخلية إلى هدوء.. تسكن من خلاله في استكانتك لتشبه نفسك فقط.. ولتستعيد أنفاسك داخل تلك المدينة التي تحضر في الظل.. هذه هي الكتابة شيء لايمكن تفسيره.. نختبئ في ذاتها وهي ذاتنا.. بعلامة بدايات ولكن لانعرف النهايات..!