يوم بعد آخر تأخذ العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أوروبا - وتحديداً بلدان منطقة اليورو- وروسيا، مزيداً من التأزم والتدهور، فيما يبدو الاتجاه الروسي نحو تعزيز التجارة والاستثمار مع دول مجموعة "البريكس". آخر البيانات المتاحة تشير إلى تحقيق منطقة اليورو فائضاً تجارياً مع بلدان العالم، في الوقت الذي تراجعت فيه علاقتها التجارية مع روسيا بشكل حاد، وتحديداً منذ سيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم في آذار (مارس) الماضي. فخلال أيار (مايو) الماضي بلغ الفائض التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات) لبلدان اليورو مجتمعة 15.4 مليار يورو مقارنة بـ 14.6 مليار يورو لذات الشهر من العام الماضي. في المقابل تراجعت الصادرات إلى روسيا بنسبة 13 في المائة، كما انخفضت الواردات من موسكو بنسبة 9 في المائة. ومع هذا، فإن بعض الاقتصاديين البريطانيين يعتبرون أن تقلص حجم التبادل التجاري بين روسيا وأوروبا لا يرتبط فقط بأحداث القرم، بل يعود إلى تغيرات اقتصادية يشهدها الطرفان. و لـ "الاقتصادية" يعلق الدكتور ميلر موليز أستاذ مادة التجارة الدولية في جامعة ليدز قائلاً "التراجع التجاري بين بلدان اليورو وروسيا، لا يعود فقط إلى الصراع السياسي في الآونة الأخيرة، فتقليص التبادل التجاري بين الجانبين سابق لذلك، بل ويسبق العقوبات الاقتصادية الأوروبية على موسكو". ويضيف "الأمر في جزء كبير منه يعود إلى النمو الاقتصادي المنخفض لروسيا في عام 2013، وكذلك خلال النصف الأول من العام الراهن، وهذا يؤدى إلى انخفاض الطلب الروسي على السلع الأوروبية، أما انخفاض الصادرات الروسية إلى القارة الأوروبية، فيمكن فهمه في ضوء انخفاض الطلب على الغاز الروسي وموارد الطاقة الأخرى". ومع هذا فإن تراجع العلاقات التجارية بين روسيا والقارة الأوروبية، لا يعد نبأ جيداً لبعض البلدان الرائدة في منطقة اليورو وخاصة ألمانيا، ففي العاشر من تموز (يوليو) الحالي حذرت الحكومة الألمانية في بيان لها، بأن انخفاض معدل النمو في النصف الثاني من العام يعود إلى الصراع الروسي الأوكراني. وسريعاً ما انعكست أنباء تراجع حجم التبادل التجاري بين موسكو وبلدان اليورو على البورصات الأوروبية، وتحديداً على أسهم الشركات التي تتعامل مع روسيا. وكان في المقدمة من تلك الانخفاضات أسهم البنك النمساوي رايفايزن التي تراجعت بنسبة 2.8 في المائة، ومتاجر التجزئة الألمانية مترو بنسبة 2.2 في المائة، ويوني كريديت الإيطالي بنسبة 1.3 في المائة. ولـ "الاقتصادية" يعلق دفلين ديلون المختص في البورصة البريطانية بالقول "أكثر الشركات الأوروبية تأثرا بهذا التراجع هي التي تتعامل في مجال البترول والغاز والمعادن، فأغلب هذه الشركات تتعامل مع موسكو بدرجات متفاوتة، ولهذا السبب انخفض مؤشر إس تي هو إكس إكس 600 للنفط والغاز بنسبة 0.7 في المائة". وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي اعتبرت واشنطن أن تلك أنباء جيدة، من منطلق أن أي ضرر يصيب الاقتصاد الروسي في الوقت الراهن، يمثل عامل ضغط على الكرملين لإعادة النظر في سياسته تجاه أوكرانيا، إلا أن أوروبا قد تنظر إلى الأمر من منطلق آخر يتعلق بمصالحها الاقتصادية المباشرة. ولـ "الاقتصادية" يعلق كيلي اريفان الباحث المتخصص في الشؤون الاقتصادية الأوروبية قائلاً "الفائض التجاري لبلدان اليورو يتحسن، لكنه بمعدلات لا تساعد على سرعة التعافي الاقتصادي، فالناتج الصناعي في تراجع ومبيعات التجزئة ثابتة، ومن ثم فإن العواصم الأوروبية تعول على إنعاش الصادرات بمعدلات كبيرة عسى أن تمثل قاطرة لجذب النمو الاقتصادي لأعلى، وكان يمكن أن يحدث ذلك إذا كان كل من الفائض الاقتصادي مع دول العالم مرتفعاً، وكذلك الفائض الاقتصادي مع روسيا ولكن هذا لم يحدث". ورغم أن أوروبا أفلحت العام الماضي في تجاوز اللحظات الحرجة لأزمتها الاقتصادية، التي وضعت مفهوم الاتحاد الأوروبي في خطر، فإن صناع القرار السياسي كانوا يأملون في أن يكون عام 2014 بداية لتسريع معدلات النمو الاقتصادي، لكن تمنياتهم ذهبت أدراج الرياح مع انخفاض معدل النمو خلال الربع الأول من العام الحالي، وعدم تحقيق الربع الثاني نسب النمو المطلوبة. وقد دفع ذلك بالبنك المركزي الأوروبي إلى خفض سقف توقعاته بشأن النمو الممكن تحقيقه هذا العام، وكذلك معدلات التضخم بالإعلان خلال الأسبوع الأول من الشهر الحالي عن خفض سعر الفائدة. ولـ "الاقتصادية" يعلق كيفت سميث المستشار المالي في البنك المركزي الأوروبي قائلاً "اليورو أخذ في تحسين مركزه النسبي في مواجهة العملات الأخرى، وهذا أدى إلى الحد من تسريع وتيرة نمو الصادرات، وكان من الممكن أن تتحسن الأوضاع إذا حافظت أوروبا على معدلات تبادل تجاري مرتفعة مع الدب الروسي". ويعتقد بعض المختصين الاقتصاديين أن السنوات المقبلة ستشهد تغيرا ملحوظا في أنماط التبادل التجاري بين روسيا الاتحادية والقارة الأوروبية، وتحديداً منطقة اليورو وبريطانيا. ويربط هؤلاء بين تعزيز روسيا لعلاقاتها الاقتصادية مع مجموعة "البريكس" التي تضم في عضويتها روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وتراجع علاقتها مع أوروبا. ويعتبر الدكتور فولي ماك كولم أحد أبرز المتخصصين البريطانيين في الاقتصاد الروسي، أن تضييق الخناق الأمريكي والأوروبي على موسكو سيدفع الطرفين إلى البحث عن شركاء تجاريين آخرين على المدى الطويل، ويؤكد لـ "الاقتصادية" ذلك بالقول "القناعة التي بدأت في البروز لدى الرئيس بوتين وطقم المستشارين الاقتصاديين لديه هي أن التعاون الاقتصادي بين الجانبين عرضة دائماً للخلافات السياسية، وهذا يجعل التعاون الاقتصادي بينهما محل شك، وموسكو تحملت على مضض رفض لندن مشاركتها في معرض فارنبره الدولي للطيران، والذي تعقد فيه صفقات بالمليارات، فالاقتصاد الروسي لا يتحمل هذا النوع من الممارسات إذا استمرت طويلاً، ولذلك أعتقد أن موسكو ستسعى لتعزيز علاقتها الاقتصادية والتجارية مع مجموعة البريكس وتحديداً الصين والهند"، ويضيف "هذا سيخلق حالة من الاستقطاب الاقتصادي الحاد إذا جاز التعبير، وأحد مظاهر هذا الاستقطاب هو الاتفاق الذي وقعته موسكو مع الصين في أيار (مايو) بشأن إمداد الصين باحتياجاتها من الغاز على مدار 30 عاما، وبلغت قيمته 400 مليار دولار، فبقدر حاجة موسكو لتنويع مصادر بيع الغاز، فإن أوروبا أيضاً في حاجة لتنويع مصادر استيرادها، ولهذا أعتقد أن ما تم تبنيه من سياسات تقارب اقتصادي من قبل الطرفين الأوروبي والروسي في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، سيتوقف ثم يأخذ في التراجع في السنوات المقبلة". ومع إدراك بعض مراكز صنع القرار الاقتصادي الأوروبي لتداعيات - على الأمد الطويل - توتر العلاقات مع موسكو فإنها تسعى لـ "فك الارتباط" الاقتصادي الراهن بين الطرفين بشكل تدريجي، خاصة أن أغلب الاستثمارات الدولية في الاقتصاد الروسي هي أوروبية في الأساس. ويعلق الدكتور فولي على هذا بالقول "الخسائر الأمريكية من رفع وتسريع العقوبات الاقتصادية على موسكو محدودة للغاية، أوروبا لا تمتلك هذا الترف، فإذا أقدمنا على خطوات مشابهة لما يقوم به أوباما تجاه روسيا، فهذا سيرفع معدلات البطالة لدينا، وسيقود إلى حالة من الركود الاقتصادي". ومع هذا فإن بعض المختصين لا يزالون عند قناعتهم بأن قيام البلدان الأوروبية الرئيسية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، بتقليص حجم تجارتها مع موسكو، سيعني عملياً تعزيز التعاون الاقتصادي بين روسيا وبلدان الأطراف في الاتحاد الأوروبي مثل مالطة وقبرص، إذ يمكن لهذه البلدان أن تلعب دور الوسيط بين الاقتصادات الأوروبية الكبرى والاقتصاد الروسي، وأن تقوم باستيراد السلع الحيوية التي يطلبها الاقتصاد الروسي من أوروبا مثل السيارات الإيطالية والألمانية، وكذلك المعدات الهندسية على أن يتم إعادة تصديرها من جديد لروسيا، وذلك كوسيلة للتحايل على أي شكل من أشكال العقوبات التي قد تتعرض له روسيا الاتحادية، وهو ما يجعل فرض العقوبات على موسكو أمراً سيئاً لبعض بلدان منطقة اليورو، وليس لكل بلدان المنطقة.