أثناء دراستنا في بريطانيا، في الثمانينيات الميلادية، في قسم الدّراسات الشّرق أوسطيّة بجامعة مانشستر فيكتوريا، تحت إشراف المستعرب الإنجليزي، المتعاطف مع العرب، ومحرّر الموسوعة الإسلامية البروفيسور إدمُوند بوزورث (Edmun Bosworth)، والذي امتدّت فترة تدريسه بذلك القسم، الذي تخرّج فيه عددٌ كبير مِنْ طلاب الدّراسات العليا، وغالبيتهم مِنْ العرب والمسلمين، ما بين عاميْ 1967 – 1990م، في تلك الحقبة كان يدرس معنا زميل فلسطيني مِنْ عرب 1948م، وكان يجيد اللغة العبرية إجادة تامّة، وهو الدكتور فوّاز الفوّاز. وأتذكّر أنّ ذلك الزّميل الكريم قام في إحدى الإجازات الرّسمية، ربّما كان ذلك في عطلة بداية السّنة الميلادية، قام بزيارة لإسبانيا، وحدّثني أنّه أثناء تجواله في قصر الحمراء، الذي يرمز للوجود العربي الحضاري في شبه الجزيرة الآيبرية، سمع شخصين مِنْ اليهود يتحدّثان بالعبرية، وربّما لم يعلما إجادة الزّميل الكريم لها، يقول أحدهما للآخر: لو كان العربُ في الوقت الحالي مثل أولئك الذين شيّدوا هذه الحضارة لما استطعنا هزيمتهم. لقد مضى على هذه الحادثة ما يقرب مِنْ ثلاثين عامًا، إلاّ أنّ تشخيص الوضع العربيِّ لا يخرج عن كونه ضعفًا حضاريًّا وفكريًّا. * في السّياق نفسه، تشير دراسة قام بتحريرها وترجمتها مِنْ العبرية إلى الإنجليزية النّاشط اليهودي الرّاحل، والذي كان يقف ضدّ الحركة الصهيونية، وهو الباحث إسرائيل شاحاك (Israel Shahak)، وقامت بطباعتها الرابطة العربية الأمريكية لخريجي الجامعات، وتحمل اسم الخطّة الصهيونية إزاء الشّرق الأوسط (The Zionist Plan for the Middle East)، تقوم الخطّة على دراسةٍ أعدّها الصحافي (Oded Yinon)، والتي نشرتها حولية قسم المعلومات في المنظّمة العالميّة الصّهيونية، وتركّز الدّراسة، التي كان تاريخ نشرها باللّغة الأصلية -أي العبرية- في فبراير 1982م، تركّز على أنّ العالم الإسلامي والعربي قد بُنى على خطّة إنجليزية فرنسية (اتفاقية سايكس بيكو / Sykes–Picot Agreement) في القرن التّاسع عشر الميلادي، بما يُشبه البيت المؤقّت، ومادته الحقيقية هي الورق. وكانت العبارة تُوحي بأنّ بناء الدّول العربية والإسلامية، ووضع حدودها المصطنعة، كما تمّت الموافقة عليه مِنْ القوى الاستعمارية، النّافذة -آنذاك- للإنجليز والفرنسيين بوثائق ورقيّة، لا يعرف عنها أصحاب الشّأن شيئًا مطلقًا، وبالتالي فإنّ الرّياح سوف تعصف به لضعفه، وهو ما تُشاهد بعض آثاره في الحالة العربية اليوم. * تقول الوثيقة أيضًا، وذلك في التّمهيد الذي كتبه النّاشط شاحاك / Shahak في 13 يونيو 1982م، بأنّ التصوّر العام لدى مراكز الدّراسات الصّهيونية، والتي تمدّ المؤسّسة السياسيّة بأفكارها، هو تقسيم العالم العربي إلى كيانات صغيرة، تتمة أو تكملة لمشروع (سايكس بيكو) المعروف، وأنّ البداية تكون مِنْ العراق بتقسيمه إلى دولتين؛ إحداهما سُنّية، والأخرى شيعيّة، والعمل على فصل إقليم كُردستان. ويضيف: إنّ هذه الخطّة ليست جديدة؛ بل هي قديمة، ولكنّ تنفيذها يتمّ بأيدٍ داخليّة وليست خارجية، وأنّ المعوّل المُستخدم هو الخلافات العرقية والإثنية (شيعة سنة، مسلمون مسيحيون، عرب بربر)، ولأنّي لا أستطيع في مقالة يتيمة كهذه ترجمة كلّ بنودِ الخطّة؛ إلاّ أنّني أختم بالقول إنّ عدوّنا الحقيقي هو الحركة الصّهيونية، التي تستخدم كلّ مراكز الدّراسات لمعرفة كلّ نواحي الضّعف في مجتمعنا، بينما نحن -للأسف- لا نعرف عن أعدائنا، قُدامى وجُدد، شيئًا؛ بل إنّ بعض الدّارسين العرب في الجامعات الغربية يكتفي بالعكوف على رسالته التي يُعدّها للحصول على الدّرجة العلمية (الماجستير أو الدكتوراة) دون أن يقرأ شيئًا عن ذلك الكمّ الكبير مِنْ الوثائق الموجودة في مراكز الدّراسات العربية، ودون أن يستخدم اللّغة التي تعلّمها في معرفة ما تقذف به المطابع ودور النّشر. يصعب عليه -مثلاً- إحصاء الحوليات المتخصّصة في شؤون العالمين العربي والإسلامي، يضاف إلى ذلك الوقوف ومعرفة تلك الوسائل التي استخدمها الباحثون المنتمون للحركة الصّهيونية، واستطاعوا أن ينفذوا إلى أعماق صناعة القرار في تلك البلاد، بل يبقى -للأسف الشّديد- دومًا في موضع المتفرّج، ثم لا يلبث أن يُغادر المكان، وربّما تصعب عليه العودة ثانية إليه. * إنّ الوضع الحضاري والفكري الضّعيف، أو المتهالك الذي تمرّ به الأمّة العربية، يتطلّب وضع خطط مستقبلية نستطيع مِنْ خلالها تشخيص أدوائنا بدايةً، ومعرفة طرق علاج تلك الأدواء، والإحاطة كذلك بالتّيارات الفكرية العالمية، لأنّنا جزءٌ مِنْ هذا العالم، ولا نستطيع الانفصال عنه. رابط الخبر بصحيفة الوئام: أزمةُ العقل العربي وافتقاد الرّؤية الاستشرافية للأحداث