تتجه الأمور في مفاوضات جنيف النووية نحو صفقة كاملة طويلة الأمد بين الولايات المتحدة وإيران تتوج التعاون الإقليمي القائم بينهما على الأرض في ملفات العراق وسورية وأفغانستان، حيث تتلاقى مصالح الدولتين ورؤيتهما إلى الأدوار والتسويات والترتيبات المصاحبة لها. أما القوى الأخرى المشاركة، فلا تملك سوى المصادقة على ما يجيزه الأميركيون، بعدما حولت واشنطن المداولات إلى نقاش ثنائي يتركز أساساً على جدولة رفع العقوبات عن طهران والسيناريو المناسب لاحتفاظ الإيرانيين بقدراتهم النووية. وبانتظار أن يحصل جون كيري على مباركة أوباما والكونغرس لتفاصيل الصفقة، تواصل الدولتان تنسيقهما المباشر وغير المباشر في المنطقة، وخصوصا في العراق، حيث قدم الإيرانيون أول من امس «بادرة حسن نية» تمثلت في تمكين البرلمان العراقي من انتخاب رئيس له، وقابلتها «بادرة إيجابية» أميركية شكلتها رعاية واشنطن مؤتمراً للعشائر السنية «المعتدلة» في الأردن يهدف إلى إحياء «الصحوات»، تمويلاً وتسليحاً، في استعادة للعبة المشتركة السابقة التي أثبتت نجاحها أثناء الاحتلال الأميركي للعراق. فالأميركيون والإيرانيون الذين يديرون سوياً اللعبة السياسية والعسكرية في بلاد الرافدين، غير راغبين في دفع ثمن المواجهة مع تنظيم «داعش» وفلول البعثيين، ويفضلون أن «يطهّر» السنة صفوفهم بأنفسهم، وأن يتولوا مقاتلة «الدولة الإسلامية» وإبعاد البعثيين «على حسابهم»، مثلما فعلوا مع «القاعدة» قبل سنوات. ولهذا امتنعت واشنطن عن شن أي غارات على مواقع المتشددين أو ضربهم بالصواريخ، مثلما أوحت تصريحاتها بعد التقدم الذي أحرزه هؤلاء في العراق وسورية، وأرسلت في المقابل خبراء عسكريين إلى عمان للإشراف على إعادة بناء «الصحوات». أما الغارات التي شنها الطيران الإيراني، فكانت لتشجيع سنّة العراق على الإسراع في تنظيم صفوفهم كي لا يتحملوا المسؤولية السياسية عن تدخل إيراني بري محتمل. عملياً، امتنع «الجيش الشيعي» التابع لنوري المالكي عن الدفاع عن المناطق السنّية، لكنه حشد قواه لحماية المناطق الشيعية من أي هجوم قد يشنه حلفاء «داعش»، وكان الهدف من ذلك تأليب السنّة على السلطة الجديدة التي وفرت بتطرفها وسوء معاملتها للسكان، الذرائع المطلوبة لانتفاضة «صحوية» جديدة. كذلك تهرب الأميركيون من التدخل كي يزيدوا الضغط على السنّة المعتدلين ويضطروهم إلى تخفيف مقاطعتهم لحكم المالكي في ضوء الخطر الأكبر للمتشددين. وهكذا يحتفظ الشيعة بسيطرتهم الكاملة على الحكم المركزي في بغداد، سواء بقي المالكي أو استبدل بشخصية من الطراز نفسه، بينما السنّة منشغلون بقتال بعضهم بعضاً، بعدما اعتبرت إيران أن محاولة تعديل أسلوب الحكم في العراق هدفها الحد من نفوذها في هذا البلد. أما الأكراد، فتولى الأميركيون لجم تطلعاتهم، وأكملت إيران وتركيا المهمة، فأعلنتا معارضتهما الواضحة لإعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق. وفي هذا السياق، يتبين أن الهدف المشترك بين واشنطن وطهران إشغال السنّة العراقيين وإلهاؤهم عن المطالبة بتصحيح المشاركة وشروطها، والتوزيع العادل لموارد الدولة، ورفع العزل عن المعارضة السياسية ووقف التجييش الطائفي والتبعية لإيران، وهو ما يلقي شكوكاً كبيرة حول هذه القوة المفاجئة التي ظهر بها «داعش» ومكّنته من احتلال مناطق واسعة من العراق، وحول الكم الهائل من الأسلحة الذي «أهداه» إياه جيش المالكي عند انسحابه، وجرى نقله بسرعة إلى سورية حيث يساعده في معاركه ضد معارضي نظام الأسد.