الإنجليز معروفون عند جيرانهم الألمان بأنهم أخبث خلق الله، وأشدهم مكراً ودهاء في التدبير السياسي وخلط الأوراق. في مراسلات بين المندوب البريطاني في الهند وزميله متصرف لواء البصرة في العراق أوائل القرن العشرين، تلقى متصرف البصرة من زميله في بومباي نصيحة بسيطة جداً ومسمومة جداً، ليس لبريطانيا وإنما للعراق وما جاورها، ولاحقاً لكل منطقة الشرق الأوسط. كتب المندوب في بومباي لزميله المتصرف في البصرة ما معناه أنه بعد تفكير عميق واستشارات لم يجد أفضل من العودة إلى التاريخ القديم للهند للعثور على أنجع الوسائل لإحداث الفرقة وإثارة النعرات بين الهنود. بناءً على هذه القاعدة البسيطة والخبيثة ينصح المندوب في بومباي زميله المتصرف في البصرة أن يقرأ تاريخ العراق وينبش فيه بتلك الطريقة. لم يكن المتصرف البريطاني في البصرة بحاجة إلى بذل مجهود كبير، وكانت نصيحة زميله أكثر من كافية. في أول صفحتين يقرأهما من تاريخ العراق الإسلامي عثر على علي ومعاوية والحسين ويزيد والعرب والفرس. بعد أن قرأهما جيداً عرف ما يتوجب عليه فعله للسيطرة على العراق مثلما فعل صاحبه مع الهند. كان الناس في العراق آنذاك متفقين على التخلص من الاستعمار الأجنبي بكل أنواعه، وكانت الجارة إيران دولة ثانوية تخضع هي نفسها لسيطرة الإنجليز والروس، وكان الكرد منسجمين مع العرب بالذات أكثر من الأعراق المجاورة، وكانت الفتنة المذهبية والعرقية نائمة فأيقظها الإنجليز عليهم لعنة الله. لم تكن أحداث تلك الحقبة من تاريخ العرب عموماً أسوأ الأحداث المترتبة على نصيحة المندوب السامي البريطاني في الهند لزميله في البصرة. الأسوأ بكثير أتى بعد ذلك وبعد خروج الإنجليز من المنطقة، والأكثر سوءاً بمراحل أتى بعد غزو الروس لأفغانستان ودق طبول الجهاد الأمريكية لطردهم، ثم اكتمل السوء بعودة الخميني من منفاه الأوروبي وتمكينه من تأسيس حكم الملالي في طهران وتسلُّم المرجعية الشيعية في العالم الإسلامي بسلطات الولي الفقيه. كان الإنجليز يتوقعون - وقد صدق حدسهم آنذاك - أنهم بتطبيق تلك النصيحة أسسوا في البصرة من جديد لاستئناف العداوات والحروب التي نشهدها الآن، وفقط باستعمال تلك الصفحتين المسمومتين من التاريخ الإسلامي الطويل، تاريخ علي ومعاوية والحسين ويزيد. كان دهاة الإنجليز متأكدين من أن تلك الوصفة المذهبية سوف تلتقطها أياد كثيرة، من بينهم حكام بالعمالة والأجرة وزعامـات دينية بعمائم وأتباع جهلة، ورجال أعمال بمظاهــر الدعاة وألسنة السياسيين، إضافـة إلى تجار السلاح والمخدرات والجـواسيس والقوادين. كان الإنجليز يتوقعون أيضاً، وهذا ما درسوه ولقنوه لحلفائهم الأمريكيين فيما بعد، أن هذه الجماعات المتطفلة والمسترزقة من الحروب والفتن عبر التاريخ، سوف تؤسس وتمول تحت راياتها ميليشيات مستعدة للقتل متعطشة للدماء من المهمشين والمرتزقة والحمقى والمشحونين مذهبياً المفرغة عقولهم. هذا ما حصل بالفعل، إذ تسلَّمت سلطات ولاية الفقيه الفارسية هذه الوصفة المسمومة وبرمجت بموجبها الإرهاب المذهبي الشيعي في العراق وسورية ولبنان واليمن، ولكن ليس في عقر دارها إيران. حزب الله في لبنان وحزب الله الحجاز وحزب الله العراق وحزب الدعوة وعصائب أهل الحق وجماعة واثق البطاط وجماعة الحوثي وكتائب أبي الفضل العباس وفيلق القدس، هذه كلها عند التفكيك المنطقي لتركيبتها وأهدافها يتضح أنها مجرد منظمات مذهبية شيعية إرهابية تجتمع كل خيوطها في طهران وقم. النسخة الأخرى من الوصفة سلمتها أمريكا للمرجعية السنية السلفية، وهذه بدورها فرَّخت لنا ما سمي أولاً أجيال الصحوة في العالم الإسلامي، ثم منظمة القاعدة وطالبان وداعش والنصرة وأنصار الشريعة والقاعدة في المغرب وشمال إفريقيا وبوكو حرام ومنظمة الشباب في الصومال، وهذه كلها منظمات إرهابية سنية محسوبة على التسنن السلفي، وبدعوى الجهاد ولغت في الدماء وخربت ونشرت في الديار السنية ذاتها من الإرهاب والتدمير ما لم تفعله جيوش الصهاينة والغرب والفرس مجتمعين. إذاً أين المخرج وكيف النجاة من براثن هذه الطبخة المسمومة التي نبشها لنا الإنجليز من محتوى صفحتين فقط اختاروهما لنا من مجلد التاريخ الإسلامي الضخم؟. الإنجليز ردوا إلينا أسوأ جزء من بضاعتنا القديمة، وسلموها إلى أيد خبيثة لكنها أمينة لم تخيب ظنونهم وزادت عليها ما لا يستطيع اليوم علي ومعاوية والحسين ويزيد إصلاحه مجتمعين لو بعثوا أحياء يرزقون. الوضع سيئ وكالح ويحتاج إلى جيل جديد يتحلى بالشجاعة والوطنية والذكاء للتخلص من كل هذه الثعابين والعقارب والعناكب المذهبية.