من أجمل القراءات الأدبية وأمتعها قراءة التجارب التي يرويها المبدعون عن طقوسهم وخبراتهم والعقبات التي تعترض طريقهم أثناء ممارسة عملية الكتابة، وميزة هذا الشكل من المؤلفات أو الكِتابات أنه وسيلة مُساعدة لاختصار الطريق وتذليل العديد من المصاعب التي قد يصطدم بها الأدباء في بداية مشوارهم الكتابي، وكذلك يُمكن الاستفادة من واقعيتها بعيدًا عن تنظير النقاد ومطالبهم الصارمة، وكتاب (ضغط الكتابة وسكرها) للروائي المبدع أمير تاج السر أحد تلك المؤلفات الرائعة التي جمع فيها المؤلِّف مقالات منوّعة عبَّر فيها عن آرائه في مواضيع مختلفة، وتحدث في كثير منها عن مسائل ذات علاقة بالإبداع وبتجربته الإبداعية الخاصة. أول مقال في ترتيب المقالات التي تضمّنها كتاب (ضغط الكتابة وسكرها) يتحدث فيه أمير تاج السر عن مسألة مهمة تؤرق كل كاتب أو شاعر يسعى للتميز والإبداع، وهي مسألة صعوبة إيجاد أفكار جديدة للكتابة عنها شعرًا أو نثرًا، ويحكي تاج السر في مقال (أفكار للبيع) عن ورود رسالة –يصفها بالغريبة- من أحد قُرائه يعرض عليه تزويده بأفكار جديدة لكتابة روايات "عظيمة" مُقابل مبالغ مالية يتم الاتفاق عليها، وبعد إشارة الكاتب لعدد من التجارب الغريبة التي مرّت به غير تجربة بائع الأفكار يؤكد على أن "الكتابة ليست أمرًا يمكن شراؤه، والأفكار مهما كانت غريبة أو غير مألوفة، ليس بالضرورة تصنع أدبًا عظيمًا، وما يلتقطه الكاتب بنفسه من الطرق والحياة اليومية، يبدو أكثر انسجامًا مع كتابته من تلك الأفكار التي يزوده بها آخرون". ويؤيد حقيقة ما أكّد عليه أمير تاج السر أن الأفكار المستوردة أو التي يتكلف المبدع كتابتها دون إقامة علاقة عشق بينه وبينها تولد في أغلب الأحيان باردةً هزيلةً لا تسر القارئين، وعلى العكس من ذلك تخرج الفكرة التي يكتبها المبدع بحب وصدق لتتجلّى في صورة جميلة وجاذبة. وفي الشعر تحديدًا أطّلعُ بين فترة وأخرى على أبيات وقصائد لا تتسم أفكارها ومواضيعها بالجِدة والحداثة، ومع ذلك تعجبني وألمح فيها مهارة الشاعر وقدرته على الإبداع، ففي الأيام الماضية قرأت بيتين للشاعر ملفي بن عون يقول فيهما: حنا بوقتٍ فيه بعض العلاقات فتوقها واجد ولا تنترقع قلوب بعض الناس مثل المطارات هذا يطير وذاك توّه يوقع وفي وقت قراءتي لهذين البيتين استدعت ذاكرتي بيتين كتبهما الشاعر مسفر الجعيد قبل سنوات حول ذات الفكرة، ويقول فيهما: ما عاد تلقى فالزمن قلب صادق القلب واحد والولايف ثلاثين راحت قلوب الناس مثل الفنادق تستقبل الزوار لو هم ملايين فالأبيات اللاحقة تشترك مع السابقة في نفس الفكرة تقريبًا، لكن ابن عون استطاع أن يُعيد صياغتها بشكل جميل أيضًا، وذلك بتوسيع حيز الصورة المكاني الذي يستقبل العلاقات المؤقتة ليصبح "مطارات" بعد أن كان "فنادق" في أبيات الجعيد ..! أعتقد أن الإشكالية ليست في وجود أزمة أفكار جديدة، بل في وجود مُبدع قادر على التفاعل مع الفكرة القديمة والنظر إليها من زاوية مُختلفة، وإبرازها بصورة مُختلفة تحرّك المشاعر وتأسر القلوب. أخيرًا يقول الحميدي الحربي: قالوا تغرّد قلت وشلون أغرّد ما نيب لا واعظ ولاني سياسي من كل هاجس برمضان امتجرّد والشعر عنه الصوم خفّف حماسي!