اختلف النقاد في الشاعر المصري الكبير الراحل محمود حسن إسماعيل الذي أصدرت الهيئة المصرية العامة مؤخراً أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات فالدكتور طه وادي وفي مقال له منشور في مجلة (فصول) النقدية المصرية في يوليو لا يدخل محمود حسن إسماعيل في عداد شعراء (أبولو) أو شعراء مصر الكبار فهو يذكر في عداد شعراء (أبولو) الكبارة: إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وصالح الشرنوبي وصالح جودت، مكتفياً بوضع محمود حسن إسماعيل إلى جوار «شعراء آخرين» ظهروا في تلك الفترة ويعددهم على الشكل التالي: سيد قطب ومصطفى عبداللطيف السحرتي وعبدالعزيز عتيق ومحمد عبدالمعطي الهمشري ومحمود حسن إسماعيل والعوضي الوكيل وجميلة العلايلي ومحمد عبدالغني حسن وعبدالرحمن صدقي وحسن كامل الصيرفي. ولكن نقاداً آخرين لا يرون ما رأى طه وادي. فقد ذكر فاروق شوشة (محمود حسن إسماعيل في ذكراه الثلاثين): «كنت أتابع عن كثب حماسة أنور المعداوي لشعر علي محمود طه، واهتمام الدكتور عبدالقادر القط بشعر ناجي، والتفات محمد مندور إلى شعر محمود حسن إسماعيل وتسميته له «بوحش الشعر» ومن قبل مندور كانت هناك شهادات البياتي ونازك الملائكة والسياب عن شعره. ثم تغير المناخ الشعري وتغيرت الأذواق وإذا بالدكتور عبدالقادر القط يفاجئنا - وهو مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة - في واحد من احتفالاتنا بذكرى محمود حسن إسماعيل، بأنه آن أوان القول إنه أشعر الثلاثة وأن ما يتبقى من شعره للتاريخ والذاكرة الشعرية يفوق بكثير شعر ناجي وعلي محمود طه، وان اكتشافاته واقتحاماته، والمجالات الشعرية التي خلق في فضائها عاطفياً وإنسانياً وكونياً تفوق، في أصالتها وجرأتها وتأثيرها، نظائرها عند رفيقيه وأن لغته الشعرية، بصفة خاصة، ستبقى شاهداً ودليلاً موحياً على عظمة التفرد وسطوع التميز وتحقق الهوية والشعرية، وأنه شاعر كوني بقدر ما هو شاعر إنساني النزعة لم تشغله ذات نرجسية، أو اهتمامات صالونية عابرة، أو وقوع على فتات ما يمتلئ به المجتمع من إغراءات ومباذل، فكانت عصمته لشعره من وهم التجارب والمواقف الصغرى صدى لعصمته لنفسه ووجدانه وحياته من التدني أو التهالك أو مسايرة كل ما يبرق وليس في حقيقته ذهباً». لكن الدكتور محمد مندور كان هاجمه قبل ذلك هجوماً عنيفاً، وقلل من قيمة شعره إلى حد السخرية. ففي مطالعته لقصيدة «حصاد القمر» التي نشرت في مجلة «الرسالة» عام م (عدد مايو) قارن بينه وبين المتنبي، شاعر العربية العظيم فوجد في شعره رنيناً قوياً في بسطة أوزانه وفخامة ألفاظه، بل في بعض صوره الشعرية المجتلبة على النحو نفسه الذي كان المتنبي يصطنعه أحياناً متتلمذا لأبي تمام. لكن مندور عاد ليجعل شعر المتنبي غير شعر محمود حسن إسماعيل، مقللاً عن شعر الأخير الذي وصفه بأنه مغاير في معدنه النفسي وفي رؤيته الشعرية، وعاد ليماثل بين شعر الشاعرين من حيث النوع الخطابي لكنه وصف شاعر الحمدانيين بالشاعر الكبير. أما صاحب «هكذا أغني»، أو «شاعر الكوخ» أي محمود حسن إسماعيل، فقد عاب عليه أمرين: أولهما ان للمتنبي نفساً قوية عاتية متماسكة، عاطفة المتنبي مغلقة مركزة عميقة ولهذا قلما تلوح كاذبة، عاطفة المتنبي نار داخلية لا تراها وان ألهبت اللفظ أو أوقدت الصورة. وأما احساس محمود حسن إسماعيل فمفضوح ويأبى شاعرنا الا ان يزيده افتضاحاً بقصاصات النثر التي يعلقها فوق قصائده وفي هذا ابتذال. للنفس عنده نفرة. عاطفة محمود حسن إسماعيل «مطرطشة» حتى لتلوح سراباً عاطفياً، كما يقول النقاد الانكليز. ثاني هذين العيبين بنظر مندور اضطراب الرؤية الشعرية عند محمود حسن إسماعيل. «بل إنني أخشى الا يكون له حقل شعري على الاطلاق. وهذا أمر يتضح لمن يراجع صورة في أي قصيدة من قصائده، فإنه لا بد واجد بينها من التنافر ما يقطع بأنه لا يرى الأشياء رؤية شعرية صحيحة. تراه يجمع بين صور لا يمكن ان تكون واحدة للموصوف، ولو أنه حرص على الرؤية الشعرية الصادقة لرأيت التجانس الذي يعوزه. وأنا، بعد ارجح انه يلتمس الصور من ذاكرته لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه» وهذه الأخيرة أقامت الدنيا ضد محمود حسن إسماعيل من قبل النقاد ولم تقعدها وهي ان صوره من الخيال ومن إعمال ذهنه في الأشياء فيركبها تركيباً ليس له مرجعية واقعية، وهو ما سماه النقاد لديه بالمزج بين المتناقضات وحاكموا الصورة لديه بمنطق الواقع، فانكروا عليه «بعثرة الدمع» مثلاً. وقد واصل محمد مندور انكاره لتفوق شعر محمود حسن إسماعيل من منطق عدم وجود العاطفة المتماسكة والرؤية الشعرية الواضحة معتبراً ان الرنين الخطابي مهما بلغت قوته لا يمكن ان يسمو بالشعر والأمر كله يرجع لغرابة صوره وبعدها عن الواقع المعيش. يقول مندور: «لغيري ان يعجب بقوة أسر محمود حسن إسماعيل، واستحصاد لفظه وغرابة صوره، وأما انا فما دمت لا أستطيع ان أدرك ببصري حقيقة ما يصف، ولا ان أسكن إلى نوع احساسه، فإنني لا أتردد في رفض شعره». ولكن مندور يوجد فرصة لشعرية محمود حسن إسماعيل. فهو يؤمن بأن محمود حسن إسماعيل بمقدوره ان يصبح شاعراً كبيراً لأنه من وجهة نظره يمتلك موهبتين لا شك فيهما: أولاهما روح الشعر روح غفل ولكنها قوة من قوى الطبيعة قوة تحتاج إلى التثقيف الصحيح. ولو جاز لي ان آمل من هذا الشاعر الاصغاء إلى موضعي النقص الكبيرين اللذين أشرت إليهما فيما سبق، لرجوت ان نجد فيه شاعراً يعتز به عصرنا. وثاني هاتين الهبتين قدرته على الانفعال، وفي هذا ما يلهب الحس، فيدرك المرء بقلبه ما لا تدركه العقول. وما يحتاج إليه محمود حسن إسماعيل لاستغلال قدرته، إنما هو نوع من النظام يركز به احساسه ويرد ما فيه من فضول». ويرى آخرون ان هذا النقد من مندور وغيره، قد تأتى عن ذائقة كانت مهيمنة في ذلك العصر، تحاكم النص بمنطق المرجع وانتفت وتغيرت هذه الذائقة فيما بعد، فحكموا بشاعرية محمود حسن إسماعيل. بل إن حسه الشعري كان سابقاً لعصره وفي ذلك ما يؤكد بأن محمود حسن إسماعيل قد خلق ليحقق النقلة بين عصرين ومدرستين شعريتين، فعاش بينهما وفيهما شعرياً، لتمثل في النهاية مرحلته الشعرية، وهي مرحلة شديدة الخصوصية. الواقع وعلى ضوء مراجعة الأعمال الشعرية لمحمود حسن إسماعيل، ان الشاعر حل في منطقة افتراق بين نزعات شعرية تتجاذب وتتصارع في تاريخ الشعر العربي الحديث بين النزعة الكلاسيكية التي تمت على يد شوقي وكان قد بدأها البارودي ونزعة التجديد التي دخلت في معارك ساخنة بين «الديوانيين» وأصحاب النزعة العاطفية التي استفرت باسم أبولو وكانت في موازاتهم مدرسة شعراء المهجر. ويقع محمود حسن إسماعيل موقعاً وسطاً بين القديم والحديث. ويصعب على قارئ شعره ان يسلكه في مذهب معين كالرومانسي والواقعي والرمزي لأنه يجمع عناصر شتى من هذه المدارس الفنية، لكنه في النهاية يمثل صوتاً فنياً عميق التميز والتفرد في شعرنا العربي. لكنه انضم إلى مدرسة أبولو، وبمجلتها نشر بواكير إنتاجه الشعري، ومنه على سبيل المثال قصيدة نشرها في عدد فبراير من عام م في رثاء أمير الشعراء شوقي، وقد نظمها على طريقة الشعر الحر. وكانت هذه المحاولات في الاهتمامات الأولى لمبدع في حجم محمود حسن إسماعيل كان متابعاً ومنظماً في القضايا التي أثارها عصر التحول في الحياة الشعرية والأدبية بعد رحيل شوقي عام م مؤرخاً لهذا الرحيل بأنه التاريخ الذي شهد هبوط شاعرنا لأول مرة من صعيد مصر قادماً إلى القاهرة ومشاركاً في جنازة شوقي بالمعنيين المادي والمعنوي معاً، ومشغولاً بما اطلق عليه أدب الصنعة وأدب الالهام وترجمات عمر الخيام وفلسفة السرقة الأدبية وحال الشعر بعد رحيل حافظ ثم شوقي وفي هذه المرحلة الانتقالية بين القديم والحديث نهض محمود حسن إسماعيل شعرياً. بعد شوقي تحديداً وجد الشعر العربي في مفترق طرق بين جماعة العقاد وشكري والمازني وبين جماعة أبو شادي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وبين المهجريين خارج مصر. وكان صرح الكلاسيكية قد أدى دوره في احياء الشعر العربي من الركود، بعد ان كاد يلفظ أنفاسه في العصرين المملوكي والتركي. والواقع ان محمود حسن إسماعيل في مسيرته الفنية، راوح بين تيار أبولو وتيار ما عرف لاحقاً باسم الشعر الحر. وقد ظلم الشاعر، برأي بعض النقاد، في نسبة الشعر الحر إلى نازك الملائكة والسياب. لكن وكما كانت بداية الديوان على يد خليل مطران، وريادتها للعقاد وبداية أبولو لتركي أبو شادي وريادتها لإبراهيم ناجي، فإن بدايات الشعر الحر لمحمود حسن إسماعيل وريادته لنازك الملائكة والسياب. انحسرت فيما بعد جماعة أبولو، وانزوى أعضاؤها بعيداً عن الحياة العامة. ومن عباءتها خرجت جماعة الشعر الحر. والمتتبع لشعر محمود حسن إسماعيل يجده نواة حقيقية يمكن ان تنهض منها قصيدة التفعيلة بعد ان تحرر هو وجماعته من اعتماد القصيدة على البحر الواحد، ومضى قدماً فيما هو أبعد عن ذلك. وفيما بعد انتهت جماعة أبولو بالانفصال، وتمزقت وهجر بعضهم الحياة العامة كأحمد زكي أبو شادي الذي سبقه ناجي إلى ما وراء الغمام، وسبقه علي محمود طه إلى ما وراء البحار مع الملاح التائه وسبقه محمود أبو الوفاء إلى معاناة أنفاس محترقة، وامتدت عمليات التخلي عند الصيرفي في الألحان الضائعة حتى وصلت إلى آخر دواوين محمود حسن إسماعيل: أين المفر؟ وتعددت الاتجاهات التي تختلف في تفاصيلها ولكنها تلتقي عند انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه.. وربما كان الاحساس بالظلم الذي تبدى شعرياً في ظاهرة الشكوى عندهم سيطر إلى حد اليأس. لكنه لازم محمود حسن إسماعيل بشكل خاص، فهجر الحياة العامة في مصر وسافر إلى الكويت منزوياً من أجل لقمة العيش! يجمل الدكتور مصطفى السعدني ما يجعل من شعر محمود حسن إسماعيل شعراً متفرداً منها: - امتلاك الشاعر لطاقة عميقة جبارة إلى حد التوحش تضرب في أعماق النفس البشرية، تمكنه من أن يسلط شعاعه المحموم على الكلمة فيجعلها تهوم بما تحمله من شحنة نفسية مزلزلة تجمع بين الماضي والحاضر، في صورة مكثفة لا يستطيع استيعابها إلاّ قارئ مختلف. - ادراكه ان الخيال قدرة على الادراك واستخلاص النظام من الفوضى، وملكة خلق وابتكار. - تمكنه من خلق التركيبة الشعرية السحرية من غير افتعال ولا ترصد، وبخاصة في طرح الموج الشعري الداخلي في ما يشبه عالم الرؤيا، جعله ظاهرة فنية فريدة في الشعر العربي، يقول شيئاً جديداً وثرياً، وهو الوحيد من بين جيل الرومانسية والرمزية العظيم الذي برهن على أن الشكل المتوارث، إذا وجد الشاعر الضخم، يستطيع أن يستبطن مشاكل الإنسان المعاصر، ويبرز الظواهر المتداخلة داخل عوالم التجسدات. وأخيراً يستطيع أن يجمع من حوله الانتباه واليقظة والدهشة. ويلفت النقاد النظر إلى شيوع الموسيقى في شعره. ونحن نقع على هذا التلوين الموسيقي المتمثل في الوزن والقافية والايقاع على انسجام نغمي بحكم القصيدة الشعرية عنده، من ذلك في «أغاني الرق»: ألقيتني بين شباك العذاب وقلت لي: غنّ وكل ما يشجي حنين الرباب ضيعته مني هذا جناحي صارخ لا يجاب في ظلمة السجن ونشوتي صارت بقايا سراب في حالة الجن أواه يا فتى! لو لم أعش كالناس فوق التراب! وقد غنى محمد عبدالوهاب (وآخرون) من شعره قصيدة «النيل» ومنها: سافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمال شابت على أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال ولم يزل يطلب الديارا ويسأل الليل والنهارا والناس من حوله سكارى هاموا على أفقه الرحيب آه على سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل يسبح الطير أم يغني ويشرح الحب للخميل وأغصن تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيل وندورق بالحنين ثارا أم هذه فرحة العذارى استشعر محمود حسن إسماعيل الموت قبل مجيئه، وسمع أبناؤه في مصر، فترة وجوده في الكويت، أنباء كاذبة عن وفاته قبل رحيله ويقول فاروق شوشة في ذكراه: «عندما أبدع الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل قصيدته «سواقي أبريل»، لا أظن انه كان يدور بخلده أو بخلد أحد من قرائه أنه يتنبأ، على عادة الشعراء، بأن رحيله سيكون في شهر ابريل. وأنا أعيد قراءته بعد رحيله، توقفت عند أبياته: ابريل دير العاشقين من قديم الزمن سمعته يتلو المزامير فهل يسمعني؟ دب الهوى في بدني فهل نزعت كفني؟ مدركاً أن بعض الشعراء بما يمتلكونه من استشعار كوني وحس استثنائي يوهبون، كالطير، معرفة اتجاه الريح، واستشفاف وقوع المصائر».. فهل كان الموت يستعجل الشاعر في مستقر رحمة ربه قبل انتهاء الأجل. يموت محمود حسن إسماعيل بعد ذلك في الكويت التي كان قصدها للعمل. قبل موته بلغ أسرته في مصر نبأ كاذب من وفاته. وكانت بعض الأجهزة الثقافية في مصر خذلته بعدم ترشيحه لجائزتها التقديرية. من الكويت يرسل إلى ابنته رسالة حزينة يقول لها فيها: «لا تجزعي يا ابنتي، إن الطبيعة أكثر أدباً وخلقاً عن أن تعامل العباقرة مثلي كما تعامل العامة من الناس. إذا حدث، ولا قدر الله، ذلك، فلابد أن ترمد الشمس جفونها في الظهيرة، وأن تلبس الأرض القتام والسواد».. وتقول ابنته إن نبوءته قد تحققت يوم وفاته، فلم تر للشمس ضوءاً لمدة أربعة أيام كان خلالها الشاعر يلفظ أنفاسه الأخيرة.