من واقع خبرة وتجربة في القضاء والمحاماة، أؤكد أننا لو راجعنا الكثير من الدعاوى التي أشغلت المحاكم، وطال أمد نظرها سنين عديدة، واستنزفت جهود القضاة وأوقاتهم، وكان لها أسوأ الأثر على حقوق الناس، لوجدنا أن النسبة الأكبر من هذه الدعاوى تعود مشكلتها إلى ادعاءات على خلاف عقود وإقرارات مكتوبة وموثقة، وكثير منها أصبحت محل التنفيذ، بل وبعضها مضى على تنفيذها وعمل أطرافها بها مدداً طويلة، ثم يخطر على بال أحدهم أن يرفع دعوى قضائية ضد الطرف الآخر ، يدعي حقوقاً أو التزامات خلاف ما هو وارد في العقد المكتوب، أو تناقض ما سبق أن صدر عنه من إقرارات موثقة لدى كاتب عدل أو جهة مناط بها توثيق هذا الإقرار. إن من أعظم ما يصلح به حال الناس اليوم، وتستقر به معاملاتهم، ويأمنون على حقوقهم، أن يصدر ولي الأمر قانوناً ملزماً بعدم سماع أي ادعاء بحق يخالف ما هو موثق ومكتوب؛ إلا إذا كان هذا الحق المدعى به مكتوباً وموثقاً أيضاً، فكل ما تم إثباته بالكتابة لا يجوز ادعاء خلافه إلا بدليل كتابي وإن مما يؤسف له كثيراً أن أبواب القضاء عندنا مفتوحة على مصراعيها لأمثال هذه الدعاوى. وبهذا فإنه بإمكاني أن أتعاقد مع أي أطراف على تأسيس شركة مثلاً، ونوثق عقد تأسيسها لدى كاتب عدل وزارة التجارة، ويتضمن العقد إقرار كل شريك أنه هو والشركاء الآخرون سدّدوا حصصهم من رأس المال، وتقوم هذه الشركة وتبدأ العمل، ويمضي على ذلك سنين عدداً، ثم يخطر على بالي أن أرفع دعوى ضد أحد شركائي، أزعم فيها أنه شريك صوري لا حقيقي، وتُقبل مني هذه الدعوى، وتُسمع قضاء، وأوقع شريكي المدعى عليه في دائرة القلق والانزعاج، وأبقيه عدة سنوات مرتهناً في ترقب ما يمكن أن تسفر عنه هذه الدعوى، ويصبح في غاية القلق من حكم قضائي قد يصدر ضده لمصلحتي، رغم أنه يمتلك عقد تأسيس مكتوب موثق يكفي لنفس دعواي كاملة، وأنا لا أملك إلا عدة قرائن هزيلة، مثل: (ما شهد به فلان، وما رواه فلان، أو نحو ذلك من قرائن هزيلة). وفي صورة أخرى: يأتي أحدهم أمام كاتب العدل ويقرّ على نفسه أنه باع العقار المملوك له على فلان بثمن كذا وكذا، وأنه استلم الثمن كاملاً، ثم بعد سنة أو عشر أو عشرين سنة (ليس هناك أي تحديد في النظام) يقيم دعوى يدعي فيها خلاف ما سبق أن أقرّ به، فيدعي مثلاً أنه كان رهناً وليس بيعا، أو يدعي أنه لم يستلم الثمن وأنه إنما أقرّ بذلك ثقة في المشتري، أو غير ذلك من ادعاءات، وأيضاً تفتح المحاكم أبوابها مشرعة لمثل هذه الدعوى، وتسمعها، ويُستدعى الطرف الآخر، وأحياناً ورثته بعد موته، ويبقى رهيناً في ظلّ دعوى لمدة سنوات، لا يدري ما الله فاعل به فيها!! هذه المشكلة هي أساس البلاء، ومع عدم وجود قانون واضح صريح ملزم يقضي على هذه المشكلة ويجتثها من جذورها، ستبقى كل تعاملات الناس بينهم محل شك وتخوف، مهما طال عليها الزمن. وإن من أعظم الخطأ أن يعتقد أحد أن تقنين هذه المسألة يتعارض مع أحكام الشريعة، بل الشريعة تأمر بكتابة الديون وتوثيقها، وإذا كان الله عز وجل أمر في أطول آية من القرآن بكتابة الديون، فإن من أعظم ما يصلح به حال الناس اليوم، وتستقر به معاملاتهم، ويأمنون على حقوقهم، أن يصدر ولي الأمر قانوناً ملزماً بعدم سماع أي ادعاء بحق يخالف ما هو موثق ومكتوب؛ إلا إذا كان هذا الحق المدعى به مكتوباً وموثقاً أيضاً، فكل ما تم إثباته بالكتابة لا يجوز ادعاء خلافه إلا بدليل كتابي. وإذا لم يصدر قانون بذلك فعلينا أن نستمر في تحمل أسوأ النتائج، من ضياع حقوقنا، وانشغال وانهماك قضاتنا ومحاكمنا، ومهما كتبنا أو وثقنا، فإن ذلك لا يحمينا من ضياع هذا الحق الذي أثبتناه لمجرد ادعاءات تستند على قرائن لا تقوى على معارضة الدليل الثابت المكتوب. ولقد أصبحت هذه هي النظرة السائدة عن القضاء السعودي، مما جعل الكثير من المستثمرين يترددون ألف مرة قبل الدخول في سوق استثمار يعرفون أن القضاء فيه لا يحمي العقود والاتفاقيات. كما أن ذلك مما شجع كل أصحاب النوايا السيئة وفتح الباب لهم لابتزاز الناس وأكل أموالهم بالباطل، لعلمهم أنهم يمكن أن يسيئون لهم باستعمال باب القضاء المفتوح، دون أي جزاء ولا رادع، فهم بين إحدى الحسنيين: (إما نجحت دعواهم ونالوا مرادهم بحكم قضائي يعتمد القرائن ويلغي العقود، وإما اضطروا الطرف الآخر إلى مصالحتهم ودفع أموال لهم للتخلص من شر الدعوى وآثارها الضارة، وإما خرجوا سالمين بعد سنوات استنزفوا فيها أموال وأوقات وحقوق الطرف الآخر). وفي ظلّ الجهود المتسارعة الحثيثة لإصلاح وتطوير القضاء السعودي، يجب أن تكون هذه المسألة في قائمة الأولويات، وأن تنال حقها من الاهتمام عند القائمين على القضاء، لأنهم يعلمون قبل غيرهم مدى ما لها من آثار سيئة، في حال تمّ إهمالها وعدم حسمها. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.