إن الإسلام حين يدعو لصلة الرحم، فهو يدعو لاحترام الآخر وعدم جعل هذا الرحم سلطة فرض رأي، واتخاذ القطيعة سلاحاً لتكون أرحامنا كما نشاء أو يكونوا نسخة عنَّا؛ حيث من البديهي أنَّ كلاً منَّا يحمل من الاختلاف والتميز ما إن لو جعلناه ذريعة لقطيعة أرحامنا لما وصل أحدنا الآخر. فليس كل اختلاف هو مدعاةٌ لخلاف. إن في صلة الرحم تجديدَ عهد بالسلام مع هذا الآخر القريب، وإعلاناً لحسن النيات مهما تعددت دروبنا وتشققت، وأصبح لكل منَّا واديه. هذه المعاني من السلام الاجتماعي، مما يعمل على فلترة علاقاتنا الإنسانية؛ إن لم نكسبها بالودّ وقوانين الرحمن أي من خلال تربيتنا الدينية كمسلمين؛ فنحن أعجز عن اكتسابها بقوانين العقل والإنسان. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ). فالآخر الذي لا نستطيع أن نتعايش معه من خلال أول رابطة إنسانية، أي رابطة الدم، نحن أعجز عن التواصل مع سواه ممن تربطنا به رابطة أبعد كالجيرة أو العمل أو الوطن. (صلوا أرحامكم) أي تجاوزوا كل مشكلاتكم واختلافاتكم وكل ما يفرقكم، اجعلوا الوصل مُقدماً على كل ما سواه؛ حيث إن هذا الوصل كفيل أولاً بتسكين أوجاع أمراضنا الإنسانية من حقد وظلم وتكبر. في السياسة غالباً ما يتمّ التصفيق لكل لقاء يعقد بين الشركاء المختلفين أو المتناحرين، على اعتبار أن تلك خطوة أولى على طريق حل المشكلات، وإعلان عن رغبة حلِّها. إن عدم احترام الاختلاف بيننا كأرحام هو ما يجعل من التواصل مع الغريب البعيد أنجح من التواصل مع الرحم القريب؛ حيث لا سلطة لهذا الغريب على أفكارنا وتوجهاتنا وسلوكنا. وهذا بالضبط ما يجعل منَّا مجتمعاً متناقضاً مع ذاته، يمارس رقابة مستمرة على سواه فكراً وسلوكاً، يقع بين نار الذات والآخر، ذاته التي إن احترمها ومارس معها قناعاته وأفكاره؛ فَقَدَ الآخر -أي رحمه- الذي يجب عليه أن يُبقيه موصولا. إن عدم القطيعة والحوار ما هي إلا ثقافة وتمرين للذات على تجاوز الصعوبات، وعلى إعادة التفكير، والتأمل، والتدبر، وهي مُحاولة مُستمرة لعيش السلام الإنساني بدءاً من الذات ووصولاً للآخر كل الآخر: المتشابه والمختلف، الآخر في الدم، والآخر في الوطن، والآخر في الإنسانية، وما بينهم، وما يجمعهم، وما يفرقهم، وذلك ما يجعل من قطيعة الرحم على ارتباط بالفساد بالأرض، وحرمان الرحمة. إن الحقوق التي تنشدها الإنسانية في مجتمعاتها الكبرى، من احترام الآخر والتعايش والمواطنة التي نتغنى بها دائما، تبدأ هنا في عقر داري ودارك. فكلٌ منا طاغية على مقاسه!!