ثمة حالةٌ من التجلي لقذارة النظام الدولي وافتقاده لأدنى درجات الأخلاقية تظهرُ في موقفه مما يجري على أرض سوريا والعراق اليوم. فحين تحتفل (داعش) بإقامة (خلافتها) بعرضٍ عسكري جرﱠار في فضاء الرقة المفتوح وفي وضح النهار، ويحصل هذا على مرأى ومسمع النظام السوري دون تدخل براميله المتفجرة من جهة، وعلى مرمى حجر من مطاراتٍ عراقية فيها مئات طائرات (الدرون) الأمريكية، التي تتفنن في ملاحقة وقتل أفراد يختبئون في زواريب أفغانستان واليمن وليبيا من جهةٍ أخرى، لايعودُ الأمر بحاجةٍ إلى كثيرٍ من التحليل فيما يتعلق بالنظام الدولي المذكور. آمنَّا وصدﱠقنا إذاً أن وجود داعش و(عُلُوﱠها) بهذا الشكل في هذه المرحلة أمرٌ مطلوبٌ منهم ومرغوب، بغض النظر عن كونه مؤقتاً أو طويل الأجل، وعن إمكانية ضربها وإلغائها نهائياً فور انتهاء دورها. لكن وجود هذه الظاهرة المجنونة بكل المقاييس لم يكن له ليحصل لو اقتصر الأمرُ على إرادة النظام الدولي، وعلى رغبة أنظمة سوريا والعراق وإيران وغيرها. لأن ماسمح بهذا الظهور، ابتداءً، كان ولايزال ذلك الفهم المُهترىء للإسلام، والذي قتلَ كل معانيه الأصيلة وطمس روحهُ وكل مافيه من دوافع ودعوات لوجودٍ إنساني عاقلٍ حرٍ كريم. لكننا نُخطىء إذا ألقينا تَبعةَ هذا الفهم على أهل داعش وأمثالهم فقط، وإذا تجاهلنا حقيقةَ أن هذه الطريقة في التفكير هي النتيجةُ الطبيعية لكل أشكال الفهم المشوﱠه للإسلام، والتي كانت تتوزع الأدوار في دعوى تمثيله والحديث باسمه في المجتمعات العربية، بأسماء وتفسيرات وفرق مُختلفة. فمن الإسلام الفقهي التقليدي (مثل فقه المشايخ في بلاد الشام) وصولاً إلى الإسلام الحركي، مروراً بالإسلام السلفي والصوفي، وغير ذلك من تلاوينَ وتوجهات، كانت المجتمعات المذكورة تتقبل وجود هذه التجليات وتتعايش معها. وكان هذا التعايش ممكناً لأن الغالبية العظمى من أصحاب هذه التوجهات كانوا يتعاملون مع الظروف السابقة بطروحات نظرية حمالةٍ للأوجه. لم يكن هناك داعٍ، قبل زمن الأزمات الذي نعيشه، لأن يتخذ هؤلاء مواقف (عملية) واضحة وقاطعة من قضايا كبرى وحساسة بشكلٍ يُظهر حجم الهوة بين فهمهم وبين تحقيق مقاصد الإسلام الرئيسة فيما يتعلق بحياة الإنسان على هذه الأرض، وبتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال. لم تكن المجتمعات تعرف، عملياً، ماذا سيحصل بها، وكيف ستتأثر، لو أن أصحاب هذه التوجهات امتلكوا بعضاً من زمام الأمر، أو الأمرَ كله، فيما يتعلق بوجودها ومعاشها، وفيما يختص بقضاياها سواء منها المصيرية الكبرى، أو تلك المتعلقة بالحياة اليومية. حتى (الجهاديون)، الذين كان يبدو أنهم يتخذون مواقف عملية واضحة أكثر من غيرهم، كانوا يُنزﱢلون طروحاتهم الغاضبة على الغرب وعلى بعض حكام العرب، ولم يكن واضحاً تحديداً كيف سيكون تعاملهم التفصيلي مع وجود تلك المجتمعات وقضاياها. لكن زمن الثورات غيَّرَ هذا الواقع بشكلٍ عام، وشاءت الأقدار أن تُصبح سوريا مثالاً عملياً واضحاً على ماسيشهده مجتمعٌ تتحكم بمصيره، بشكلٍ جزئيٍ أو شامل، مجموعاتٌ تدﱠعي تمثيل الإسلام واحتكار فهمه. وعلى مافيها من آلام وتضحيات، لم يكن ثمة بدٌ، على المستوى الحضاري، من مثل هذه التجربة الكاشفة التي أماطت اللثام عن ممارساتٍ، صدرت عن الجميع تقريباً. وظهرَ واضحاً أن غالبيتها العُظمى لاتفقد فقط الانسجام المطلوب مع تعاليم دينٍ يُعلي من قيمة الإنسان ويُكرمه، بل إنها تتناقض مع تلك التعاليم. يطول الحديث عن التفاصيل، وقد كانت موضوع مقالاتٍ سابقةٍ عديدة، لكن المحصلة تُظهر أن تجليات الإسلام المختلفة في سوريا، التقليدية والسلفية الجهادية والحركية السياسية، وصلت بوضعها الحالي إلى طريقٍ مسدود. ورغم الإشكاليات التي يمكن نِسبتُها إلى أصحابها وإلى طرق تفكيرهم وحركتهم، إلا أن الاقتصار على هذا الجانب من التحليل لايفتح لنا أبواب أي حل، ولايجيب على الأسئلة الكبرى التي يُثيرها الواقعُ الذي أوصلوا ثورة سوريا إليه. ثمة مدخلٌ آخر ينبغي وُلُوجهُ والحفرُ من خلاله في عُمق وتركيبة المنظومات التي صاغتها هذه التوجهات على أنها (إسلامٌ) هو (الإسلام) الذي يجب أن يقبله الآخرون. هل يدرك أصحاب التجليات الإسلامية المذكورة أعلاه أن ماوصلت إليه داعش كان في الحقيقة مجرد مرحلةٍ متقدمة لفكرٍ يتقاطع في كثير من دوائره مع تفكيرهم؟ سترفض غالبيتهم يقيناً هذا التحليل وتستهجنه، وثمة هروبٌ واضحٌ من مواجهة هذا الواقع عبر إقناع النفس بالشعارات والبيانات، وبإقناع النفس أن (طَرحَنا) مختلفٌ تماماً عن طرح داعش، دونما بحثٍ عن تلك الخيوط الدقيقة التي تنسج في نهاية المطاف الثوبَ نفسه. إن داعش تُعتبر مولوداً طبيعياً لزواجٍ غريب بين وحشية النظام الدولي واهتراء الفهم الراهن للإسلام. وبما أن النظام الدولي يبدو مستمراً في افتقاده إلى حدٍ أدنى من القيم الإنسانية، وبما أن هناك إصراراً على فهمٍ اختزاليٍ للإسلام يقلب كل تعاليمه ويُفرغها من مضمونها، فإن داعش ستبقى. ستبقى داعش، إن لم يكن بشكلها وتنظيمها الحالي، فبروحها وفلسفتها. ستبقى كل مولدات داعش مغروسةً في ثقافة فهم الإسلام السائدة، وستكون جاهزةً لتوليدها مرةً بعد أُخرى بألف شكلٍ ومظهر. ولن يمكن التعاملُ مع هذه الأزمة بشكلٍ حقيقي في غياب فكرٍ نقدي جذري يخرج عن النسق المعرفي الواحد الذي يحكم التوجهات الإسلامية المختلفة حتى الآن، بغض النظر عن التنويع الظاهري في اللافتات والعناوين. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain