أحسست برغبة في أن أقوم بجولة على قدميّ إلى حي «الدرب»، أحد أشهر وأقدم الأحياء بمحافظة خميس مشيط، الذي شهد سوق الخميس القديم المعروف منذ القدم بـ»موجان»، وفيه بُني «الجامع الكبير» المعروف حالياً بجامع خميس مشيط، وإمامه الحالي الشيخ «أحمد الحواشي» الذي كانت تنطلق من مئذنته صوت الراحل «مشبب بن عواض»، الذي كانت على صوته المتهدج بالأذان تضبط الساعات وخطوات المسارعة نحو الصلوات، الحي الذي شهد ميلاد المدرسة الأولى بالمحافظة المسماة آنذاك بالمدرسة «السعودية» 1395هـ، التي كانت بمنزلة الجامعة الصرح لأبناء المحافظة، وما يحيطها من قرى. ربما زيارتي للحي كانت بدافع من الحنين والشوق حينما هاجت ذكراه على خاطري، وإن كنت قد انتقلت إلى مكان بعيد؛ إذ أنا الآن في حي آخر، إلا أنه وكما قال الشاعر: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل ودعوني أعترف لكم بأني شديد الحنين إلى الماضي، فقد جالت ذكرى «حي الدرب» في نفسي، وزارت حنايا قلبي؛ فهو الحي الذي فيه وُلدت، وقضيت بميادينه وساحاته «وسدده» وزواياه وشوارعه بعضَ سنوات طفولتي المبكرة، لكن الحي القديم أجده اليوم لم يعد كما كان؛ فالكثير من معالم الأمس «لم تعد إلا بمخيّلتي» ومخيلة من عرفه قبلي؛ فقد تغيرت ملامحه، والكثير الكثير من تفاصيله قد اختفت، ولولا مواقع لا تزال تحمل شيئاً من بصمة الماضي الجميل، وملامحه القديمة، التي كأنها تقول «أنا هنا ما زلت»، لقلتُ أين أنا؟ فكم كان يعج بالبيوت الطينية المتلاصقة بالحب قبل «اللبِن» حين كانت تتناثر من «نوافذها» كلمات البشر والترحاب، فأين ذهبت؟ وكم كانت تحفل بالوجوه المتوضئة بطهر الإيمان، فأين أصحابها الآن؟ لقد رحلوا بالتأكيد. فعلى الرغم من صغري آنذاك إلا أني عرفت أين تكون بوصلة الفرح آنذاك. فحينما تهزج ساحة الحي التي تتوسطه بألوان الفرح على صوت الطبول، ورقصات الرجال، وأهازيجهم، فأعلم أن الحي يعيش الفرح. وكنت أعلم بحزن الحي وساكنيه حين تلمّ الفاجعة بأحد ساكنيه، عندما تسير جموع الرجال من الجامع الكبير في رحلة تشييع صوب «مقبرة الدرب». اليوم الحي تحول بالنسبة لي إلى «قصة ذاكرة وحنين»، تراجعني سطورها كلما مررت به، فأجدني أحاول أن أستنطق كل شيء فيه لأحاوره، لأنشده بأغنيات من ماضي الأمس، أسمع الكبار ينشدونها، إلا أن كل شيء فيه لم يعد ينتمي لما عهدته فيكون لسان حالي قول الشاعر: مال المنازل أصبحت لا أهلها أهلي ولا جيرانها جيراني إن للمكان في دواخلنا حنيناً لا يمكن لجذوته أن تنطفئ، ظلت بدواخلنا حتى بعد مغادرتنا له، وكم من أماكن ظلّ الحنين يشدنا إليها ونحن بين أحضانها، أو بعيدون عنها، فلا تلوموني وأنا أسكب لكم رشفات من حنين الذكريات لأمكنة ستظل كالوشم في ظاهر اليد.