أقرأ يومياً عن الهجائيات التي لا تتوقف ضد إعلامنا العربي، وأنه مسيس، وسجين لسياسات داعميه، وهذه اتهامات لا يستطيع المحايد نفيها، والحقيقة هي أنه لا يوجد إعلام محايد، في أي مكان، وإنما هناك إعلام موجّه، والفرق هو في نوعية التوجيه، ودرجته، فالإعلام، مثل السياسة، إذ لا يوجد ديمقراطية مطلقة، فالديمقراطية، حسب أحد أهم ساسة الغرب، ونستون تشرشل، هي أفضل الديكتاتوريات المتاحة، وكذلك الإعلام، فأفضل وسائل الإعلام هي أكثرها حيادية، إذ لا يوجد حيادية مطلقة. هذا، ولكن الإعلام الغربي ذهب بعيداً في التخلي عن حياديته، بل إنه أصبح يشبه، في كثير من الوجوه، بعض إعلام دول العالم الثالث، وللأمانة، فإن هذا السقوط المريع في مهنية الإعلام الغربي لم يبدأ إلا في مطلع الثمانينيات الميلادية، وقد كان، قبلها، يملك حداً معقولاً من المهنية. أثناء حرب الخليج الأولى، في 1990، تحوّلت وسائل الإعلام الغربية إلى مجرد سكرتاريات ناطقة للساسة الغربيين، وحتى قناة سي ان ان، والتي كانت في بداياتها حينها، كانت مذياعاً للجيش الأمريكي، أكثر منها قناة إخبارية محايدة، ولعلكم تذكرون مصير المذيع الحربي الشهير، والمتألق، بيتر ارنوت، والذي تجرأ على نقل ما جرى في ملجأ العامرية ببغداد، بكل تجرد، وصدق، فهل سمعتم به، بعد ذلك التقرير الشهير؟! وبلغ الأمر منتهاه في السوء، بعد أحداث سبتمبر 2001، إذ لم يكن مستساغاً أن تكون محايداً، وكان من نتيجة ذلك أن خسر الإعلام الأمريكي واحداً من أشهر المذيعين، وأعني مذيع السي بي سي، دون راذرز، فقد تجرأ على إدارة بوش الابن، ودفع ثمناً باهظاً لذلك، مع أنه من أبرز المذيعين، وأكثرهم إخلاصاً، وولاءً للأمة الأمريكية، ولم تشفع له إنجازاته على مدى عقود طويلة من العمل الجاد، والمتميز! أتابع ذات الإعلام الآن، وبغض النظر عن موقفي مما يجري في العراق، إلا أن المتابع يلحظ أن الإعلام الغربي يمثِّل بوقاً مخلصاً لآراء الساسة، فمع أن هذا الإعلام كان يتابع تنظيم داعش في سوريا، على مدى زمن طويل، إلا أنه لم يشيطنه، ويعطيه اسماً فنياً (آيسس)، إلا بعد أن صعد الساسة الغربيون ضده!! فقد قال الساسة إن هذا التنظيم خطير جداً، وعلى وشك أن يجتاز الحدود للهجوم على أوروبا، وحتى أمريكا، فسايرهم الإعلام، حذو القذة بالقذة، وهذا أعاد إلى الذاكرة ما فعله ذات الإعلام مع تنظيم القاعدة، عندما أطلق عليه اسم (القاعدة)، وشيطنه، بعد أن سبقه الساسة بذلك!! وهنا لا ندافع عن تنظيمات إرهابية، نعرفها حتى قبل أن يعرفها الغرب، ولكننا نتحدث عن انحياز الإعلام الغربي المخجل، والذي يزداد سوءاً مع مرور الوقت، ومن أراد أن يتأكد مما أقول فليتابع تغطياته لمقتل الإسرائيليين الثلاثة، ويقارن ذلك بتغطياته لمقتل عشرات الآلاف، في سوريا، والعراق، إذ هو مجرد صدى لما يقوله الساسة، ومن يتجرأ، يعلم أن مصيره سيكون مشابهاً لمصير دان روذرز، وبيتر ارنيت، وغيرهما ممن لم يدرك الانحدار المزمن في إعلام العالم الحر!