×
محافظة الرياض

الخرج : لا صحة لتأخر بحث من يشملهم العفو السامي الكريم

صورة الخبر

بتنا نلمس بوضوح يدعو للقلق، اتساع الفجوة بين التداولية والمسرح، وهي الفجوة التي تفنن في خلقها المهووسون بفكرة إيجاد صيغة أنيقة تلغي التقاطعات الممكنة بين الحقلين التداولي والمسرحي، اعتقاداً منهم بأن الأول يجدد نفسه في مجال اللغة، والثاني يتطور فوق خشبة الفن، ويمنع منعاً باتاً الخلط بينهما أو السماح لأحدهما بتجاوز مجال اشتغاله، ناسين أو متناسين أن المسرح، لا يمكن أن يثبت ذاته، أو يؤدي رسالته، إذا لم يخلق لنفسه آليات تجعله على تواصل دائم مع متلقيه، سواء أكان نصاً ورقياً أم فرجة. وهو التواصل الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر اللغتين السيميائية واللسانية، معتبرين أن الباث، ممثلاً في عناصر العرض المسرحي (ديكور، أزياء، ممثلين، إضاءة، مؤثرات صوتية..) والمتلقي، ينطلقان من نفس المرجعية، ويخضعان لعناصر التواصل الجاكبسونية (نسبة لجاكبسون) التي لا يمكن للتواصل أن يتحقق إذا غاب أحد أطرافها الستة. وبالرجوع إلى كتاب (المقاربة التداولية) للباحثة (فرانسواز أرمينكو) Françoise Armengaud نجد مترجم الكتاب (سعيد علوش) يتحدث في مقدمة الترجمة عن تداوليات وليس تداولية واحدة، ويوجزها فيما يلي: 1 - تداولية البلاغيين الجدد. 2 - تداولية السيكو- سوسيولوجيين. 3 - تداولية اللسانيين. 4 - تداولية المناطقة والفلاسفة. لقد عبرت التداولية غير ما مرة عن تكيفها مع أنماط أدبية مختلفة، غير أنه يبدو (أن نمط النص الذي استأثر باهتمام التداوليين والذي يظهر أن التحليل التداولي له مفيد، هو النص المسرحي). إذ توظف التداولية كأداة فعالة لدراسة الخطاب المسرحي، وتبين (أن نظريات أفعال اللغة أتت بإضافات دقيقة لتحليل الخطاب المسرحي). لكن، هل تشتغل التداولية على النص أم على العرض أم عليهما معاً؟ إن مقاربة النص المسرحي تداولياً تثير إشكالين أساسين: الأول مرتبط بالشكل التداولي الذي يمكن توظيفه، والثاني منسوب لعلاقة التداوليات كمفهوم بالمسرح كثنائية... وبما أن اهتمام التداولية ينصب على البعد الاستعمالي أو الإنجازي للكلام ويأخذ بعين الاعتبار السياق وحالة المتكلم بما فيها النفسية، فهل يمكن استعمالها كوسيلة لدراسة الخطاب المسرحي؟ وإذا أمكن ذلك، هل سيتم الاشتغال على التلفظ المسرحي (اللغة) أم على العرض باعتباره فضاء مملوءاً بالديكورات والأشياء، دون إغفال جسد الممثل وما يمكن أن يستنتج منه من معان ودلالات إضافية؟ خصوصاً وأن خشبة المسرح تحول الأشياء والأجساد الواقعة فوقها، وتضفي عليها قوة دلالية كبيرة تفقدها هذه الأشياء والأجساد، كما أن الصورة والحركة حين تلازمان اللغة تعملان على تحويلها من كونها علامة ثابتة الدلالة إلى كونها طاقة إيحائية ومركزاً من مراكز التشفير يحفل بها خطاب العرض. إذا كان من الصعب تحديد موقع التداوليات كمبحث لساني في حقلها الأصلي -أي اللسانيات- فكيف يمكن ضبط مستوياتها وحدودها مع المسرح؟ للإجابة عن هذا السؤال يرى (حسن يوسفي) أن دراسة التداولية في علاقتها بالمسرح باعتباره نصاً أدبياً وفرجة في آن واحد، يطرح إشكالات لا تقل عن سابقاتها خصوصاً وأن الاهتمام بالبعد التداولي للمسرح حديث جداً يمكن ربطه زمنياً بعقد الثمانينات (...) ويمكن حصر الإشكاليات التي أفرزها الاهتمام الحديث بالتداولية المسرحية في ثلاث وهي. الإشكال الإبستيمولوجي. الإشكال النظري. الإشكال الإجرائي. يتعلق الإشكال الإبستيمولوجي، بسؤال النموذج، بمعنى، أي الحقلين يشكل نموذجاً بالنسبة للآخر، التداولية أم المسرح؟ هل استعملت التداولية كوسيلة لدراسة الخطاب المسرحي وحسب، أم أنها استعملت التلفظ المسرحي نموذجاً تفكر عبره في مختلف القضايا اللغوية التي تعرض لها؟ أما الإشكال النظري فيفرض نفسه على مختلف الدارسين للخطاب المسرحي من الزاوية التداولية، ويتلخص في السؤال التالي: أي شكل من أشكال التداولية يمكن استغلاله في إطار نظرية المسرح؟ أما الإشكال الثالث والأخير فيطرح نفسه بإلحاح من جانب محدد هو علاقة التداولية كجهاز مفاهيمي إجرائي بالمسرح كفن يقوم على ثنائية نص/عرض. رغم هذه الإشكالات التي تواجه التداولية، فإن ذلك لم يمنع من وجود محاولات دؤوبة تنبئ عن حضور التداولية في الخطاب المسرحي، إما بتسطير هذا الحضور وتأكيده كمكون جوهري، أو تشير إليه بشكل عرضي. ولعل أهم المحاولات، والتي تنسب إليها الريادة في مجال تداولية المسرح، ما يلي: 1 - (آن يوبيرسفلد) Anne Ubersfeld (1982): الفصل الأخير من كتاب (قراءة المسرح) Lire le théatre تحت عنوان (نحو تداولية للحوار المسرحي) Pour une pragmatique du dialogue théatral؛ 2 - (كاترين كربرت أورشيوني) Catherine Kerbrat-Orecchioni (1984): من خلال دراسة بعنوان (من أجل مقاربة تداولية للحوار المسرحي) Pour une approche pragmatique du dialogue théatral؛ 3 - (أندري بوتيجـان) André Petit-Jean (1984): من خلال دراسة بعنوان (الحوار في المسرح) La conversation au théatre؛ 4 - (آن يوبيرسفلد) Anne Ubersfeld (1987): من خلال دراسة بعنوان (بيداغوجية الفعل المسرحي) Pedagogie du fait théatral؛ 5 - (دومنيك مانغونو) Dominique Maingueneau 1990): من خلال فصل من كتابه (تداولية الخطاب الأدبي) والذي جاء بعنوان (ازدواجية الحوار المسرحي) Duplicite du dialogue théatral. هذه الكتابات رغم محدوديتها، إلا أنها تبقى أساسية في بناء أي تصور معرفي حول تداولية المسرح، ولأن الحيز لا يسمح لنا بالوقوف عند كل واحدة منها على حدة، سنحاول أن نقصر الكلام عند بعضها. ففي سنة 1977 ظهر كتاب (قراءة المسرح) لـ(يوبيرسفلد)، وفي سنة 1982 ظهرت طبعة ثانية لكن مع إضافة فصل خاص في آخر الكتاب تحت عنوان (نحو تداولية للحوار المسرحي) حاولت الكاتبة من خلاله، صياغة تصور حول البعد التداولي للخطاب المسرحي بالاعتماد على أهم نظريات الدرس التداولي، يتعلق الأمر بـ(نظرية أفعال الكلام) Actes de Langage لرائدها (جون أوستين) الذي يذهب إلى أن الجمل اللغوية، تضم في بنياتها العميقة أفعالاً إنجازية. وفي إطار هذا التصور صاغت (يوبيرسفلد) مجموعة من المنطلقات النظرية نلخصها فيما يلي: 1 - الكلام لا يعبر عن شيء فقط، وإنما يفعل أيضاً، فالكلام فعل. 2 - لا يمكن فهم أي ملفوظ إلا بمعرفة وضعية تلفظه Situation d’énonciation التي تتضمن المتخاطبين والسياق؛ 3 - لا يشتغل التبادل الكلامي بين متخاطبين إلا إذا اتفقا -ضمنياً- على عدد من المفترضات؛ 4 - معرفة العلاقات المتبادلة بين الشخصيات أساسية لفهم وتأويل ملفوظاتها. بعد صياغتها لهذه التصورات عملت (يوبيرسفلد) على إبراز خصوصية أفعال الكلام في المسرح انطلاقاً من تحديد الأفعال المصاحبة للتلفظ بكل جملة، وهي بالفعل التعبيري Locutoire حيث الجمع بين العناصر الصوتية والنحوية والدلالية لإنتاج دلالة معينة، ويتضمن هذا الفعل في المسرح إجراءين، أولهما إلقاء الكلام وثانيهما إنتاج معنى لهذا الكلام، ثم الفعل التخاطبي الذي يتميز بالصعوبة ما دام الفعل اللغوي مموهاً وليس حقيقياً، ثم الفعل التأثيري Perlocutoire القائم على تأسيس ميثاق بين الأنا والآخر/المتكلم. والمخاطب يتضمن تأثيراً ينتج عنه نوع من العلائقية الاتفاقية مع الآخر، ويتمثل في المسرح على مستوى إحداث أثر فعلي واقعي على المتفرج الذي يوازيه تأثير مصطنع على الشخصية التي تتقاسم الدور مع الممثل. أشارت (يوبيرسفلد) في نفس الفصل إلى خصوصية أخرى من خصوصيات الخطاب المسرحي، وهو تراكب وضعيتين للتلفظ، وضعية التلفظ التخييلي ووضعية التلفظ المشهدي (الركحي)، مما يعني أخذ كل من النص والعرض بعين الاعتبار، ومن ثم نجد أن (تداولية الخطاب النصي في المسرح تعود مباشرة نحو الممارسة على الخشبة) ولاستفزاز معطياتها النظرية، حاولت (يوبيرسفلد) الانتقال لما هو إجرائي من خلال تحليلها لمقطع من مسرحية Phedre للمسرحي الفرنسي (راسين) عن طريق توظيف أفعال الكلام وأخذ الوضعيتين التلفظيتين التخيلية والمشهدية بعين الاعتبار. تقول (يوبيرسفلد): (لفهم وضع الخطاب المسرحي، ينبغي التمييز بين المشهدي والتخييلي، فهذا الأخير يفترض وجود أفعال كلام تمتلك كل قوتها التخاطبية. فإذا أقسمت الشخصية قائلة (أقسم) فإن لكلامها داخل التخيل كل قوته التخاطبية من حيث كونه قسماً، غير أن الممثل، بالطبع، غير ملزم بالقسم المتلفظ به من طرف الشخصية. وإذا قال الممثل للمتفرجين (انهضوا)، فإنه سيخرج عن دوره). ومن ثم يتبين أن من خصوصية كل تداولية مسرحية التمييز أولاً بين النص الدرامي والعرض المسرحي، أي بين وضعتي التلفظ الأساسيتين. ويبقى القاسم المشترك بين كل التصورات التي تناولت تداولية المسرح منها تصور (يوبيرسفلد)، أنها ركزت في غالبيتها على النص المسرحي الورقي (مما يعني صعوبة القيام بدراسة تداولية انطلاقاً من العرض المسرحي، خصوصاً أن النموذج المسيطر في الأبحاث التداولية إلى حد الآن هو النموذج اللساني، والعرض، كما هو معلوم، يقوم على أنساق مختلفة لغوية وغير لغوية). نعلم جيداً أن التداولية كعلم جديد في التواصل، استطاعت أن تحقق وجودها بفضل الفلسفة واللسانيات وكذلك السيميائيات، ومن ثم لا يمكن أن نتحدث عن التداوليات في غنى عن هذه العلوم، أو فقط باعتبارها مجالات معرفية تتقاطع معها، بل تمثل أصولها ونواتها المركزية، هذا الثراء في الأصول، جعلها تفرض نفسها على كل النصوص الإبداعية كالشعر، القصة، الرواية، والمسرح... غير أن بعض الباحثين، قللوا من شأنها واعتبروها عاجزة عن تحليل العرض المسرحي، باعتباره منطقة مكهربة يصعب الدخول إليها، وهذا رأي خاطئ تماماً ومجانب للصواب، فيكفي الرجوع لبعض الكتابات النقدية التطبيقية الواعدة حتى تظهر للمشككين بجلاء إضافات الدرس التداولي في تحليل العرض المسرحي.