ورد في الذكر الحكيم على لسان السيدة بلقيس قولها (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) وختم ذلك بـ(وكذلك يفعلون) ولا شك أن هذا ليس انتفاء أو انتقاصا من الملوك بصفة عامة، فالسيدة بلقيس كانت ملكة وحديثها كان عن سيدنا سليمان رضي الله عنه وهو أيضا ملك ونبي وملأ الأرض عدلا وثراء وبالتالي ليس المقصود هنا الملوك بحد ذاتهم، فكل من سيدنا سليمان وبلقيس ملوك ولكن المقصود هو دخول الملوك إلى قرية والدخول ليس بمعنى الزيارة أو عبور السبيل ولكن الدخول كناية عن تغير الحكم والدخول كملوك أو حكام جدد وبعنوة وليس برضاء، وعندما يحدث ذلك تنقلب الموازين ويهبط العزيز ويرتفع الوضيع ويصبح الحاكم محكوما والمحكوم حاكما ومع انقلاب الأوضاع رأسا على عقب وبشكل سريع يأتي الفساد المرتبط بهذا التغيير الشديد والقاسي والمفاجئ والذي يعود للتاريخ يجد أمثالا كثيرة فالثورة الفرنسية قلبت موازين الحكم وأعدمت حكام فرنسا لتدخل فرنسا بعدها في نفق مظلم وفي صراعات استمرت عشرات السنين وأهلكت عشرات الملايين ومنهم كل الذين قادوا الثورة نفسها فما تبقى أحد منهم إلا وتم قص رأسه مثل ما شارك في قص رأس مليكهم، وهذا مثال واحد وهناك غيره كثير لما يأتي من اضطراب وفتن ودمار عند قلب الأنظمة سواء داخليا أو من الخارج وسواء كان الانقلاب أو الثورة له مبرر مثل حال الشعب السوري العزيز أم لم يكن له مبرر وكان اعتداء غاشما ففي كل الحالات سيكون لقلب كيان المجتمع عواقب وانعكاسات شديدة. وللأسف نحن ننظر الآن إلى مصر الحبيبة تعاني من مثل هذه التغيرات العنيفة فلقد أدت ثورتهم ووقوف القوات المسلحة معها إلى قلب نظام الحكم وإنهاء عهد استمر لحوالي أربعين عاما وكان يخطط أن يستمر ويجهز ابنه وريثا من بعده للسيطرة على زمام الأمور وإنشاء حزب حاكم تم من خلاله تجهيز وتعيين المسؤولين في كافة ادارات الدولة ومن ثم جاء الانقلاب وسيق رموز هذه الطبقة الحاكمة إلى السجون ومن السجون خرجت فئة أخرى لتستلم مقاليد الحكم وهي فئة كانت لعشرات السنين مضطهدة وملاحقة وليس لها أي علاقة بالحكم وأموره وهكذا انقلبت الموازين وفي خلال سنتين لا غير وبدون تدرج أو مقومات أصبح مسجون الأمس هو حاكم اليوم وأصبح حاكم الأمس أو بالأصح حاكم الأربعين سنة الماضية هو السجين فكيف يمكن توقع أي استقرار في وضع كهذا؟ نحن نأمل الخير لمصر الحبيبة ونحن مرتبطون بها عقائديا وتاريخيا وأسريا ومصالحنا مشتركة فما يضر مصر يضرنا وما يفيد مصر يفيدنا ولا حاجة للزيادة على وصية سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لمصر وأهل مصر ولكن التفاؤل والآمال الجميلة ان لم يواكب الواقع يصبح مجرد أحلام والواقع الحالي في مصرنا الحبيبة هو أن المجتمع انقلب وانقسم واختلف والنزاع واضح للعيان وينتشر كالنار في الهشيم مما يعطي فرصة لكل من يكره مصر ولكل عدو أن يستغل الوضع ويتدخل ليزيد النار اشتعالا وما دام الوضع كذلك فإنه من الصعب أن نتوقع أي خلاص ولن تقوم لمصرنا الحبيب أي قائمة. كنت أتمنى أن نتعلم من سيد البشر عندما دخل مكة فاتحا منتصرا ولكن بدل من أن ينتقم من الذين عادوه وعذبوه هو وأصحابه وأخرجوه من أحب الديار إليه، قام عوضا عن ذلك بالعفو والصفح وأطلق أعداء الأمس بل واحتضنهم واستمالهم، وكنت أتمنى أن يدرك حكام مصر الجدد أن الحكم الذي أخذوه كان من قبلهم مستقر في يد الرئيس محمد حسني مبارك ولمدة تقارب أربعين عاما وبالتالي لم يكن هناك مسؤول أو أي شخص قيادي في أي قطاع من قطاعات الدولة إلا وكان تعيينه في تلك الفترة ومن المتوقع أن يكون ولاؤه للرئيس آنذاك أو أحد من أعوانه وبالتالي لا يمكن هدم ما تم بناؤه لأربعين سنة إلا وتتمزق الدولة ويتمزق معها المجتمع بأسره. وأتحسر على فرصة ذهبية ضاعت حيث شارك المجتمع المصري في انتخابات حرة نزيهة وبشهادة العالم بأسره ولأول مرة في تاريخه اختار رئيسه ووضع في الحكم شخصا حافظا للقرآن ومحافظا على الصلاة ومناضلا ذا تاريخ ناصع ولا يستحق منا الا الاحترام والتقدير فكيف لو اجتمع الشعب المصري حول قائد نزيه وهدفه الإصلاح، لا يخفى على أحد أن مصر هي من أغنى دول العالم بالموارد الطبيعية والبشرية، ولذلك فإنها في عهدها القديم حكمت مصر معظم المعمورة لفترات تجاوزت آلاف السنين فيكاد لا يكون هناك مورد طبيعي الا ولدى مصر كميات كبيرة منه سواء كان ذلك غازا أو نفطا أو ذهبا أو حديدا وهذا إن لم يكن نهر النيل كافيا فهذه الأرض الغنية كانت سلة الغذاء للمنطقة بأسرها منذ عهد سيدنا يوسف عليه السلام وإلى عهد الخلفاء الراشدين وإلى يومنا هذا وبالتالي لو كان شعب مصرنا الحبيب اجتمع حول الرئيس الذي اختاره لكان حقق نجاحا نفتخر به كلنا ولكن للأسف هذه الأماني لم تتحقق وبمزيد من الأسف لا يبدو أنها ستتحقق فالشعب لم يلتف حول الرئيس محمد مرسي وسواء كان ذلك بسبب أن الرئيس هو الذي لم يستطع أو لم يرغب في جمع كلمة الشعب أو كان بسبب أن الشعب والتدخلات الخارجية والداخلية لم تعط الرئيس حقه ولم تتح له فرصة الحكم، فمنذ أن تولى الرئيس محمد مرسي الحكم وهو يواجه معارضة شديدة وتعرض هو شخصيا ورموز الرئاسة إلى موجة من الهجوم والانتقاد الذي لا نقبله على أنفسنا ولا على أي شخص نحترمه فما بالك على رئيس دولة وقائد مسيرتها. واستمر الهجوم واستفحل وانتشرت المظاهرات والاعتصامات وأخيرا وصلنا إلى التمرد العلني ووصلنا إلى محاصرة قصر الرئيس بل ومحاولات لاقتحامه وبغض النظر عن السبب أو الأسباب فإن النتيجة واحدة فالقائد الذي لا يستطيع أن يقود شعبه ليس أمامه سوى خيارين، فإما القوة أو البطش ونحن نظن بالرئيس محمد مرسي خيرا من ذلك وإما الترجل والرحيل وهذا خيار مؤسف ولكنه يبدو كالخيار الوحيد فليس بالإمكان لرئيس أن يحكم شعبه من خلف كتل أسمنتية وهو لا يأمن على منزله من قذائف الملوتوف الحارقة وإن كان هذا هو حال الرئيس وقصر الرئاسة فكيف يكون حال المواطن العادي؟ من الواضح أن الوضع الحالي في مصرنا الحبيبة لا يمكن أن يستمر وأن هناك شللا للبلد ولإمكانياته وللأسف فإن التدهور مستمر إلى أن يحدث تغيير جذري وهذا مرة أخرى للأسف يتمثل في تغيير القيادة إما طوعا ومع تحديد فترة زمنية قصيرة لانتقال السلطة أو كرها بتدخل القوى العسكرية ومع كل أسف فإن كان فعلا هذا هو الخيار أمامنا إلا أنه ليس الحل بالعكس فإن تغير الرئيس الشرعي والمنتخب من أغلبية الشعب بسبب مظاهرات واعتصامات وتمرد لا يعطي أي بشائر إيجابية للمستقبل والله يستر أن لا يكون القادم أسوأ والله المستعان.