"لقد خلق الله الخير وخلق الإنسان الشر" هكذا يقول أحد المفكرين معبراً بهذه المقولة عن يأسه الصارخ تجاه تصرفات البشر اللامبالية واللامتزنة، سنوات من الحروب، أعوام من الدمار، حضارات بعمر التاريخ تم إلغاؤها في لحظة واحدة بسبب قذيفة صنعها عالم في الأسلحة الكيمائية يفتقر إلى القليل من الإدراك والنزاهة. رغم أن هناك الكثير من الكتب التي طرحتْ هذا السؤال على المستوى الفكري والفلسفي كما فعل (أنتوني فلو) في كتابه "رحلة عقل" وتداعيات سؤال الشر عقدياً؛ إلا أن الأعمال الأدبية والفنية كانت هي القالب الأكثر استيعاباً لطرح هذا السؤال من خلال سردها لتجارب الأشخاص المعذبين، ليس بهدف البحث عن الإجابة بقدر ما تطمح تلك المنجزات الإبداعية إلى استعراض ما خفي عن الكثير ممن لازالوا يتشبثون بمركزية الإنسان أخلاقياً. في الجانب الروائي مثلاً نجد (الطاهر بن جلون) قد كتب أجمل الأعمال التاريخية في هذا الجانب حيث يحكي فيها عن سيرة (عزيز بنبين) المعتقل سابقاً في سجون (تزمامارت) متناولاً فيها البؤس الذي عاشه رغم عدم معرفته عن السبب الوجيه الذي يستحق من أجله أن يقضي ما يزيد عن عشرين سنة ليكسب من ذلك السجن تصلبا في العمود الفقري وقرحة متأزمة في المعدة ومواجهة دائمة مع الوحدة والعذاب والألم والبكاء؛ خارجاً بعدها إلى الحياة وهو لا يعرف كيف يلقي التحية على الآخرين أو يتحدث مع أي متجول بكلمات موجزة وكأنه في حاجة من جديد إلى تعلم الأشياء البديهية كاللغة والمعايير الاجتماعية، تقول إحدى صفحات الرواية معبرةً عن رغبة أحد المعتقلين في الموت سريعاً لفرط ما لقيه من عذاب قام به الإنسان نفسه: " أريد أن أموت... لمَ يبطئ الموت في قدومه...؟ من يؤخر مجيئه؟ يمنع نزوله إليّ؟ وانسلاله من تحت باب زنزانتي؟ إنه ذو الشاربين الحارس الجلف الذي كأنه يقطع طريقه؟ كم هو صعب أن نموت حين نريد الموت.! فالموت لا يبالي بي. لكن دعوه يمر... أحسنوا وفادته... فهذه المرة سوف يأخذني أنا... سوف يحررني... انتبهوا جيداً.... لا تعيقوا حركته.... إني أراه.... لقد استجاب لدعائي أخيرا... وداعاً " رغم كل هذه المخازي التي قام به الإنسان على كوكب الأرض من سجن وتعذيب في المعتقلات بجانب الحروب الكبيرة والتي كانت لأسباب سلطوية تافهة إلا أننا نجد بأن بعض المفكرين حاولوا أن يهربوا من هذا الشر البشري العاصف بهم ويعيدوا إليه قيمة الخير التي سلبت منه، حيث يقول المفكر العراقي (علي الوردي):" حاول بعض المثاليين في أمريكا أن يصنعوا من أنفسهم مجتمعًا هادئًا، بعيدًا عن تكالب الحياة، وقد نجحوا في ذلك أول الأمر، لكنهم سئموا من هذه الحياة في نهاية المطاف، بل وهربوا منها، حيث يقول (وليم جيمس) بعد أن عاش معهم بضعة أيام: أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس، أو لمعان خنجر، أو حتى أن أتحدث مع شيطان، أنا تعيس هنا في هذا المجتمع الهادئ البعيد عن الشر وسأكون سعيداً حينما أتخلص منه!" (هرمان هسه) أيضاً الروائي الألماني العالمي والذي عاصر الحرب العالمية يقول في مذكراته التي عنونها ب "ماذا إذا استمرت الحروب": "لم يعد للإنسان أي داعٍ لوجوده...يجب علينا أن نطرد أنفسنا من الحياة... لقد تجاهلنا بكاء البشرية... وسكتنا حتى تسفك دماء المزيد من الملايين... لم نعد نصغي لتلك الأفكار بداخلنا... إلى ذلك الصوت المنبعث فينا ... أصبحنا ننصت إلى خطباء الحرب... نصفق لهم بحماس... نقول دوماً بأنهم على صواب... دون حتى أن نفكر بيننا وبين أنفسنا عن احتمالية أن نكون أو يكونوا على خطأ" لقد وصل القهر الإنساني من هذه التصرفات إلى أقصى من ذلك بكثير مطالباً البعض منهم أن تساعد البشرية بعضها البعض على الانقراض أو أن تتحول إلى كائنات أخرى ويقول أحدهم عن ذلك: " أريد أن أتحول لحشرة، فإن الحشرات بعمرها وعددها والمساحة التي تشغلها هي السادة الحقيقيون لهذا الكون، فالتنظيم الاجتماعي مثلاً للنمل أكثر تنافسية وأرفع أداءً من تنظيمنا الاجتماعي رغم أنها لم تدرس في جامعات السربون كما فعل بعض البشر!" وعن تفسير أصل هذا الشر نفسياً يذكر عالم النفس الشهير(لاكان) ورائد إحدى المدارس التحليلية قائلاً: "الذئب لا يقتل ذئباً آخر، أما الإنسان يفعل ذلك"، تعبيراً منه على أن الجنس الحيواني هو أكثر تصالحاً وأقل دموية من الإنسان نفسه، فالإنسان وكما يقول (فرويد) لديه غريزة العنف والموت والهدم بشكل قد يتجاوز غريزة البناء والحياة والسلام المتواجدة أيضاً فيه، هذا ما يؤكده أيضاً (لودفيغ) الفيلسوف الشهير قائلاً:" إن من يقرأ التاريخ والأنثروبولجيا يكتشف بأن الإنسان منزوع إلى فعل الشر وارتكابه بل ويكرس قدراته لذلك، لقد خسر جزءاً كبيراً من قوته وماله من أجل أن يخدم هذه الرغبة، في حين أنه لو وفر جزءاً يسيراً من تلك الإمكانيات لتنمية الخير والأرض لرأيت بأنه من المستحيل أن يكون هناك شخص واحد مريضا لأنه لا يملك مالاً للعلاج أو فقيراً لا يجد الطعام، إن هذا كله يوضح سطوة الإنسان وساديته المقيتة تجاه البشر وتجاه الطبيعة والكوكب الذي يعيش فيه!". لم يقف الأمر عند هذا الحد من الشعور بهذه الأزمة الوجودية نحو مسألة الشر وعنف الإنسان بل تحول ذلك إلى قضية يتم طرحها فنيًا وسينمائياً فحين نشاهد مثلاً فيلم " detachment " أو " Pianist the "نكتشف بأن هذه المسألة لازالت تؤرق الإنسان الحديث، يؤرقه غياب المعايير الاجتماعية، يؤرقه تحول الإنسان إلى آلة ميكانيكية تعمل لتنام وتنام لتعمل، تؤرقه الحروب التي لم يقم بها الإنسان البدائي بعكس الإنسان الحديث صاحب الأسلحة البالستية والقذائف العابرة للقارات.