حينما أمسكت أصابعها بالسيجارة للمرة الأولى اختارت مكاناً تختاره جميع الفتيات المدخنات في هذه البلاد وهو دورة المياه، فهي المكان الأكثر أماناً الذي تتمكن فيه من استنشاق دخان سيجارتها بعيداً من عيون المنتقدين لسلوكها. اليوم مرت أربع سنوات على ذلك اليوم الذي فعلتها فيه سمر عيسى للمرة الأولى في حياتها وما زالت، حيث تدخن بالطريقة نفسها، لكن الفارق أن سيجارتها الأولى كانت في دورة المياه في كلية الآداب أما سجائر اليوم فتدخنها في دورة المياه داخل مقر عملها في وزارة التربية. فالاعتقاد السائد أن المرافق الصحية مخصصة لقضاء الحاجة ليس صحيحاً بالكامل، فهذا المكان له أهمية أخرى ومهمة أخرى في العراق، فهو الذي يجمع النساء المدخنات في فرصة مقتنصة لقضاء حاجة أخرى، هي التدخين. وبات من الطبيعي جداً رؤية الأبخرة البيضاء وهي تتصاعد من بين الجدران المنخفضة وبقايا أعقاب السجائر التي تتركها المدخنات خلفهن في البالوعات قبل المغادرة. سمر وكثيرات من المدخنات غيرها يخشين انتقاد المجتمع الذي يربط بين التدخين وقلة الأدب حينما يتعلق الأمر بالمرأة وبينه وبين قوة الشخصية حينما يتعلق الأمر بالرجل. لكن هذه النظرة ليست السبب الرئيس الذي دفع سمر لاتخاذ قرار الإقلاع عن التدخين بعد سنوات من إدمانها عليه بل هناك سبب آخر. تقول سمر: «الموت دفعني للتدخين وهو ذاته دفعني لاتخاذ قرار لم أتوقع يوماً أن أملك الإرادة لتنفيذه، فالسيجارة الأولى دخنتها في ظرف نفسي صعب بعد أيام من وفاة والدي وظننت أنها ستنسيني همومي لكن موت والدتي قبل أسابيع بسبب إصابتها بالسرطان الناتج من التدخين كان سبباً في إقلاعي عنه». جلسات التدخين النسائي الوحيدة التي كانت تتمكن فيها سمر من التدخين بحرية كانت تتم مع والدتها في المنزل، لكن إصابة الأخيرة بسرطان المريء وعدم قدرتها على الإقلاع عن التدخين بعد المرض دفع الشابة المدخنة إلى التفكير الجدي بترك سيجارتها التي تعايشت معها أعواماً وامتصت الكثير من نوبات غضبها. «كنت أتوسل إليها أن تترك التدخين، وفي أيامها الأخيرة لم تكن قادرة على تناول الطعام وكانت تقذف به مجدداً بمجرد وضعه في فمها لصعوبة ابتلاعه لكنها أصرّت على إكمال مشوارها في الانتحار البطيء وماتت والسيجارة في فمها». تقول سمر بمرارة. الفتاة الشابة باتت اليوم مسؤولة عن عائلتها المكونة من شقيقتين وشقيق لم يتجاوز عامه التاسع. ولم تعد السيجارة وسيلة للخلاص من المسؤولية ولن تتمكن من تقديم أية معونة لها في ظرفها الحالي فقررت ترك التدخين لكن تنفيذ القرار كان أصعب بكثير من اتخاذه. فبعدما هجرته ليومين عادت إليه مجدداً وفي محاولتها الثانية رمت بعلبة السجائر في سلة النفايات في المطبخ ثم عادت وأخرجتها بعد ساعة لتكمل تدخين ما تبقى فيها، أما المحاولة الثالثة فكانت بمساعدة شقيقها الصغير الذي نجح بالفعل في دعمها عندما قال لها: «لا أريدك أن تتركيني مثلما فعلت أمي». هذه العبارة كانت كفيلة بتغليب إرادتها على ضعفها حتى أنها بدأت تتقزز من رؤية أعقاب السجائر الممزوجة بالفضلات في دورات المياه. وتقول: «لا أريد أن أسير في طريق الانتحار البطيء مجدداً وسأفعل ما بوسعي للبقاء بعيدة عن السيجارة». شبابالسيجارة