طرت قبل يومين في رحلة عمل سريعة إلى أم الدنيا مصر العظيمة التي ترقص على جراحها وتقلب كل مأساة إلى ملهاة مضحكة، كانت السيارة تمر بصعوبة وسط جموع المحتفلين بفوز السيسي الذين يرقصون على أنغام أغنية «بشرة خير» للفنان حسين الجسمي، بينما يحاول السائق أن يشرح لي بطريقته العجيبة كيف سيتغير كل شيء إلى الأفضل خلال أقل من شهر؟!، الشوارع والميادين والمساجد كما هي منذ أن تركتها آخر مرة قبل 7 سنوات ولكن أسماءها أصبحت اليوم تدل على أحداث جسام: ميدان التحرير، قصر الاتحادية، نادي الحرس الجمهوري، مسجد النور، كل اسم اليوم أصبح له معنى جديدا ودلالة مختلفة. من الواضح أن البلد تعرضت لضربات اقتصادية موجعة، فالأسواق الشعبية التاريخية التي كانت تعج بالبشر من كل جنس ولون هي اليوم خالية إلا من الباعة الظرفاء الذين يحاولون استدراج أي زبون يدخل بالخطأ إلى السوق، وكذلك الحال في أغلب الفنادق والمطاعم والمحلات التجارية التي يحاول العاملون فيها قتل الوقت بالانغماس في نقاشات سياسية طويلة سرعان ما تنتهي بمجرد رؤية زبون محتمل، كل الهواء مشحون بالسياسة حتى الباعة المتجولين الذين كانوا يبيعون الفل للعشاق عند إشارات المرور أصبحوا يبيعون أعلام مصر. أما من الناحية الأمنية فيبدو أن الأمور تحت السيطرة في هذا البلد الذي كان على حافة الخطر قبل عدة أشهر، ومن الناحية الإعلامية والصحافية فلا يمكن أن تصدق أنك في مصر صاحبة أعرق المدارس الصحافية في العالم العربي، فما ينشر في بعض وسائل الإعلام يكاد يتحول في بعض الأحيان إلى صورة هزلية مؤلمة، أكثر من كونه مشهدا إعلاميا يقودك لاكتشاف الحقيقة. فاز السيسي بانتخابات الرئاسة ولم يعد وزير الدفاع الذي يدير المعركة السياسية العنيفة في غرفة العمليات بل رئيس الجمهورية الذي سوف تحدد سياساته شكل الحياة في هذا البلد طوال الأعوام القادمة، والجماهير التي ترقص اليوم على أنغام أغنية الجسمي احتفالا بفوز السيسي سوف تنسى نشوتها عما قريب وتعود إلى واقعها الصعب والمرير فالمشاكل التي كانت تخنق مصر قبل الثورة هي ذاتها لم تتغير بل ازدادت تعقيدا خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ووجود ملايين المحتفلين في الشوارع لا يلغي حقيقة أن هناك ملايين أخرى لم تنزل إلى ساحات الاحتفال لأنها قد تكون رافضة لما يحدث وسيظل رفضها خطرا خفيا ما لم تعالج الأمور بالحكمة والسعي لتوحيد الصفوف. الله يحفظ مصر ويحميها، الله يحفظها لشعبها الطيب الأصيل ويحفظها لنا ولكل العرب، والله يعينها كم قامت وقعدت ثم قامت وقعدت دون أن تستقر على حال طوال السنوات الثلاث الماضية، وهي العظيمة الكبيرة التي يقوم العالم حين تقوم ويقوم أيضا عندما تقعد!.