إذا كان المفكر والفيلسوف الإيطالي في عصر النهضة نيكولو مكيافيللي أفاد بأن الغاية تبرر الوسيلة، فإن المفكّر المكبوت والمحبط أشار إلى أن إشباع الرغبات المكبوتة وتهدئة المشاعر المرفوضة تبرر التحرّش بالكائنات الأنثوية الكبير منها والصغير، المحجّب منها والمنقّب ومن دون، الطويل منها والقصير، المرحّب منها والرافض. وحيث إن حق النساء في التواجد في الفضاء العام، ناهيك عن التفاعل فيه والإستمتاع به والشكوى منه والمطالبة بتعديله أو تغييره أو نسفه برمته، تحوّل على مدى سنوات إلى مسألة تخضع للنقاش وقضية قابلة للفصال وموضوعاً تحكمه آراء «الرجال» وقناعاتهم الشخصية، فقد رحّلت ظاهرة التحرّش من خانة الحقوق البديهية والحريات الأساسية إلى حيز التسييس الضيق ومجال التلاعب الشاسع. «فرق شاسع بين احترام المرأة وتبجيلها من خلال تربية النشء على قواعد الذوق واللياقة والأدب، وبين تنشئتهم على إنها كائن ضعيف أو مهمّش أو مخصص لأداء مهمات بيولوجية بعينها ما يستوجب حفظه في علبة تحميه من التلف أو العطب أو إستخدام الغير له». هكذا تلخص أمل مرعي (62 سنة) ما طرأ على وضع المرأة في مصر من واقع معايشة وملاحظة سيدة عاشت لحظات احترم فيها المجتمع (على رغم شيوع الأمية) المرأة وسنوات، واحتقرها بعدما ارتفعت نسبة التعليم وانتشرت مفاهيم «المرأة كقطعة الحلوى الجاذبة للذباب في حال كشف عنها». وللكشف درجات، وللدرجات تبريرات، وللتبريرات مظاهر منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو إجتماعي أو نفسي أو عصبي. عصبية المتحرّش الذي يدافع عن فعله بهجوم عنيف على ضحيته، فهي إما من شجعته على ذلك لأن مظهرها يعكس سوء سمعتها، أو هي مجنونة حيث خيّل لها أنه يتحرش بها، أو هي معقدة نفسياً لأنها قبيحة وتبحث عمن يتحرّش بها، تعكس ما يموج به المجتمع من أمراض نفسية، لا سيما ان النسبة الأكبر من المارة عادة ينحازون للمتحرّش، سواء لأنهم يعانون أمراضه ذاتها، أو تحت ضغط عوار قيمي حيث مجاهرة الأنثى بوقوعها ضحية تحرّش عيب، أو بسبب نفاق مجتمعي حيث أن البنت المحترمة لا تسمح لنفسها بأن تتعرّض للتحرّش أصلاً، أو بدافع تسامح مغلوط حيث «معلش وحصل خير» وغيرها من المبررات. «المبررات» هي الكلمة الأكثر شيوعاً واستخداماً في ملف التحرّش. المستشار القانوني في «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» بهاء عز العرب يقول في دراسة له إن القانون والمحاكم يشجعان على التحرّش، ولكن من خلال التشديد على الصورة المؤسسة للمرأة والمستخدمة دائماً وأبداً من قبل قطاع كبير من المجتمع لتبرير العنف الجنسي أو لوم ضحاياه، فـ»للقانون فكرة واضحة عن المرأة، عن دورها، عن لباسها، وقيمة جسدها! بل إن للقانون تقويماً محدداً لأجزاء جسدها المختلفة، يترتّب عليه خلق صورة معينة للمرأة تجعلها أكثر عرضة للتحرّش». «أميرة» (43 سنة) تصنّف نفسها بإنها ظلت طوال سنوات عمرها رافضة للتحرّش قلباً وقالباً، والأخير أهم. «الغالبية المطلقة من النساء والفتيات ترفض التحرّش بالقلب. لكن مربط الفرس يكمن في التعبير عن الرفض. فمنهن من تكتفي بالتضرر النفسي، ومنهن من تلجأ إلى مزيد من التغطية ومبالغة في العزلة، لكن هناك أيضاً من تعبر عن غضبها بالفعل، بدءاً بالتعبير اللفظي عن الإعتراض، ومروراً بالإستعانة بالمارة، وإنتهاء بالإصرار على ردّ كرامتها من طريق القانون، القاصر أصلاً». أميرة من النوعية الأخيرة. لها صولات وجولات في أقسام الشرطة، وفي دوائر النقاش الشعبية في الشارع حيث يتجمّهر المارة، ويتكدّس الرجال كلما جاهرت إمرأة أو فتاة بتعرّضها للتحرّش. وأمام هذا السجل الحافل من المواجهات التي تسفر عادة عن إحباطات قانونية سيما أن القانون لا ينصف المرأة، والصدمات الشعبية حيث تتجلى ردود أفعال الشارع الرافض، ليس للتحرّش بقدر رفضه للمجاهرة به، يبقى السؤال الذي تطرحه من دون إجابة: لماذا لم يفكر المجتمع في مواجهة التحرّش عبر تربية أبنائه من الذكور؟ التساؤل نفسه يطرحه عز العرب بقوله: «التحرّش ليس من الأفعال التي يتربّى الرجال المصريون على الإحساس بفداحتها، مثل السرقة أو القتل، فهو ليس مجرّد فعل مقبول أو مسكوت عنه باعتباره نتاج ظروف معينة مثل رشوة الموظف العام أو إلقاء القمامة في الشارع، لكنه من الأفعال التي يتم التشجيع عليها بأشكال مختلفة». ويضيف إن التحرّش بالنسبة الى مراهقين كثر هو أحد بوابات العبور إلى عالم الرجولة والحصول على صك «الصياعة» من أصدقاء السوء. وهو لفئة أخرى استعراض للقوة، أو عقاب للمرأة التي لا تلتزم بالشروط التي حددها لها المجتمع للتواجد في أي مكان عام. ويخلص عز العرب إلى «أننا كمجتمع أو على الأقل رجاله نشجّع على فعل ما بينما نعتبره جريمة. «فإذا اتفقنا على أن المسؤول عن التحرّش ليس مجرّد حفنة من المتحرّشين الناشطين، بل نسبة كبيرة جداً من رجال مصر، يصبح التجريم فعلاً محيّراً». الحيرة هي الوجه الآخر من قضية التحرّش التي باتت تقلق كل بيت مصري، فيه أنثى ضحية للتحرش، وفيه الجاني المتحرّش. وعلى رغم ذلك فإن رب البيت بالدف ضارب. الطريف أنه على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، ومع كل موجة ثورية، أو إستحقاق برلماني، أو إنتخاب رئاسي، أو تغيير تشريعي، تتصاعد التوقعات الخاصة برد الاعتبار إلى نساء مصر وفتياتها. ومع تفعيل الإستحقاق الرئاسي الثاني بعد ثورة يناير، يعلو سقف توقعات المرأة المصرية مجدداً، فهل من مجيب؟! مصرمجتمع