النسخة: الورقية - دولي ما برح المثقف أو السياسي المنخرط في الشأن العمومي مسيّجاً بالكثير من الصور النمطية والإكراهات التي تحول دون أن يكون صورة ذاته الحقيقية في تقلباتها وتحولاتها وانكساراتها. المطلوب من هذا الشخص أن يكون رائياً وبشيراً وهادياً ورائداً. وإذّاك، لا يجوز له أن يكتئب، أو يتراجع، أو أن يصاب بعارض اليأس أو فقدان الأمل. إن ثمة تصوراً رسولياً صاغته الأدوار التي تنكّبها هذا الشخص على مدى التاريخ، فهو المخالف والمعارض والمقاوم والمناضل، والشهيد. وهو النزيه، والخالي من النزوات، والمملوء باليقين بانتصار الخير، وانبثاق الحق من لجج الظلم والظلام، ومنوط به، بالتالي، معالجة الأرواح المعطوبة، وتطبيب النفوس التي أصابها القنوط، ورفع معنويات أولئك الذين يتوقفون في منتصف الطريق، وحضهم على مواصلة المسير، حتى لو تهرّأت الأقدام! وقد أنتج هذا التصور المحايث لهذا الشخص كائناً انفصامياً، منعزلاً عن حرارة الحياة، ومنفصلاً عن الواقع. وصار يقدم خطابه وفي ذهنه الجماهير التي لا ترضى منه إلا أن يكون المثال المحتذى، والأنموذج الذي لا يعرف اليأس، ولا حتى مراجعة الذات أو الأفكار أو التصوّرات. أضحى هذا الشخص المطوّق بـ «الرسالة» يكتب ويفكر ويتحدث ويبتسم ويحزن، وفق إيقاع الجماهير، وما يطلبونه. و «الجماهير» بطبعها متطلّبة! ومع ازدياد مساحة البؤس، وأخص هنا العالم العربي، ومع تراجع فسحة اليقين بتحرير أي شيء، ومع سيطرة الدهماء على الفضاء العام، وهزيمة العقلانيين، ودعاة التنوير في مواجهة قوى الظلام، وكذلك ذهاب المجتمعات العربية إلى مزيد من الضيق، والانشطار المذهبي والسياسي، وتراجع الحريات، وتآكل حقوق الإنسان وفي مقدمها المرأة والطفل، وسوى ذلك من الكوارث والقتل المجاني، وارتفاع منسوب الطغاة حتى لو جاؤوا عبر صناديق الاقتراع... مع كل ذلك أضحى من العبث أن يمارس ذلك الشخص الدورَ المعتاد الموكول له، لأنه إن فعل ذلك فسيكون تائهاً في الشوارع والأزقة، أو من سكان «العصفورية»! فماذا بمقدره أن يفعل حينذاك، حتى يحافظ على ما تبقى من توازنه النفسي؟ ليس عليه سوى أن يتخلى عن دوره التبشيري، وأن يكون إنساناً طبيعياً يحب ويكره ويخطئ ويداهمه الملل واليأس، ويتحلّل من عقدة الجماهير، لأن الجماهير، في المحصلة النهائية، مجرد وهم، فهي كتل غير متجانسة، ولا متفقة على رأي. إنها ذاتها الجماهير التي تصفق للطاغية، وترفع صور قتلة الأطفال، وترقص في الشوارع ابتهاجاً بانتصار الجنرالات المدجّجين بالأوسمة، رغم أنهم لم يخوضوا أي حرب إلا ضد شعوبهم! ماذا لو أصاب ذلك الشخصَ اليأسُ. ماذا لو أعلن للناس/ الجماهير أنه لم يعد يحتمل الكذب وتزييف الوقائع، وأن مستقبل العرب معتم، وأن النفق الذي هم فيه لا ضوء في آخره، وأن عليهم أن يغيّروا المنكرات بقلوبهم بعد أن شُلّت أياديهم، وانعقدت ألسنتهم؟! ولماذا لا يكون مثلَ الطبيب المحترف الذي يبلغ مريضه بعلّته، لا أن يوهمه بمعسول الكلام، بذريعة رفع معنوياته، ثم ما يلبث أن يسير في جنازته، ويترحّم عليه، ويقول: لقد كان شجاعاً في مواجهة الموت. فأي مديح قد يفيد امرأً قتله الأمل الزائف، والوعود الجوفاء بأن صحته «عال العال»، وأن مرضه العضال عبارة عن وعكة صحية عارضة يعالجها «الإسبرين»؟! «الشعوب» العربية مخدّرة، ويراودها الحلم المستحيل، وتأخذها الأغاني الحماسية، والأناشيد الأيديولوجية إلى تخوم بعيدة، فتظن نفسها على أسوار القدس، أو على ضفاف نهر يلهو الناس على جنباته بحب وتسامح، فلا فقراء ولا متسولين، ولا تعذيب، ولا سجون، ولا اختطاف سلطة، ولا دعوات إلى حجر حرية الإنسان والتفكير نيابة عنه، أو النطق بلسان الله. الأحلام المجدّفة يلزمها اليأس العاقل الذي يلجم النفس الأمارة بالأمل الغزير، ويدفع باتجاه الحفاظ على منسوب التوقعات المتفائلة، كي تعتني «الجماهير» بما هو أجدى وأنفع وأكثر إثماراً: الحديقة المنزلية، تربية أبناء سعداء، الاستمتاع بما تبقى من هواء طلق، والقهقهة في شكل هستيري حين سماع نشرة الأخبار! * كاتب وأكاديمي أردني